شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
100 عام من نكسة الأغنية الوطنيّة: هل مازلنا بحاجة لها أصلاً؟

100 عام من نكسة الأغنية الوطنيّة: هل مازلنا بحاجة لها أصلاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 6 يونيو 201901:45 م

"عدّى النهار".. هو دائماً "يعدّي" دون أن نتمكّن، كعربٍ، من رؤيته أو المشاركة فيه. حاضرُنا لا يختلف كثيراً عن ماضينا، نحن ندَّابو الحظوظ، نُغلق على أنفسنا الأبواب ونكتئب لنغنّي.. نحن أمّة النكبة والنكسة والغناء المهزوم، النكبة والنكسة والغناء هنا مترادفاتٌ تجتمع على شرف الهاوية العربيّة.

"عدّى النهار".. هو دائماً "يعدّي" دون أن نتمكّن، كعربٍ، من رؤيته أو المشاركة فيه. 

تنحَّى جمال عبد الناصر عن حُكم مصر في الظاهر بعد نكسة يونيو 1967، فغنّى عبد الحليم حافظ أنشودة المغلوبين ومعلّقتها الخالدة في الباطن "عدّى النهار"، رجع "عبد الناصر" في كلامه بعد يومين عن التنحّي، فغيّر "حليم" مساره، كأنه مستأجَرٌ بالقطعة، ليُترجم الموقف السياسي الحزين، وغنّى "البندقية اتكلمت"، مع أنها في تلك اللحظة لم تكن قد تكلّمت بعدُ.

دائماً ما نتمنّى ولا نحقق أمنيّاتنا إلا في "كتاب الأغاني".

لم نسمع أغنيةً أمريكيّةً تقول "أحسن جيوش في الأمم جيوشنا"، مثل تلك التي كتبها بديع خيري وغنّاها سيّد درويش منذ نحو 100 عام، وأورثاها إلى أجيالٍ لاحقةٍ تباهت بانتصارٍ متوهَّمٍ وأمّةٍ متخيّلة.

لم نسمع فرنسيّاً احتلَّ هتلر المجرم أرضَه يغنّي مكسوراً "أخي جاوز الظالمون المدى"، كما فعل موسيقار الأجيال العربيّة، محمد عبد الوهاب، في خمسينيات القرن العشرين، قرن الهزائم والنكبات والنكسات العربيّة التي لا تُحصى.

دائماً ما نتمنّى ولا نحقق أمنيّاتنا إلا في "كتاب الأغاني".

يقول "ابن خلدون" إن "المغلوب مولعٌ دائماً بتقليد الغالب"، فلماذا لا تتحلّى أمّتنا المتراجعة بواقعيّة الأمم المتقدّمة في أغانيها، وتُصرُّ فقط على التمسّك باجترار ماضيها عبر أطلال صليل السيوف وقرع الطبول وصراخ المغنّين؟

صحيحٌ أنني من دعاة التمسّك بشكل أغنيتنا، لكن الوضع إزاء ما يسمى بالأغنية الوطنيّة أصبح ينذر بمأساةٍ حقيقيّة، فقد صارت الأغنية الوطنيّة أداة السلطة في الدعوة لأيِّ حشدٍ تريده، فتدعو "هتّيفة الانتخابات الجُدد"، الملحنين والمطربين، ليؤدوا دور "جلّابي الجماهير"، وكلّه حسب الطلب، إذ يطلب الضابطُ الخفيُّ أغنيةً عن ضرورة النزول للاستفتاء أو انتخابات الرئاسة، على أن تربط الأغنية الوطنيّة المطلوبة بين هذا النزول وفعل الرجولة لدى الرجال، وبالتالي هم يخاطبون إحساس المصري بالعار إن لم ينزل إلى لجان الاستفتاء والانتخاب، فتكون أغنية حكيم "عندك نزولة"، التي نفّذها ضابط المخابرات الشرفي الملحن عمرو مصطفى.

لا توجد أمّة غير مستقرّةٍ سياسيّاً تُصلح حالها بالأغاني والأناشيد..

لا توجد أمّة غير مستقرّةٍ سياسيّاً تُصلح حالها بالأغاني والأناشيد.. فهذا التعامي عن الخراب لا يمكن إصلاحه إلا عبر أغنياتٍ تستهدف التغيير وتدافع عنه، ولا تخجل من تعرية سوءاتها وسوءة المجتمع الذي أنبتها.

إن ما يسمّى بالأغنية الوطنيّة العربيّة يحتاج إلى إعادة نظر، كمفهومٍ وتطبيق، فمن حيث المفهوم نريد تعريفاً لها والغرض من ورائها، فالمجتمع الذي تأثّر بأغنيات الاشتراكيّة لـ"حليم" تعطّل كثيراً تحوّله إلى رأسماليّة السادات، والمجتمع الذي عاش على امتداح الأفراد من سلطانٍ إلى ملكٍ إلى رئيس جمهورية، من الصعب أن يناقش قضاياه الجمعيّة لأنه مكبّلٌ ومحبوسٌ في صورة فردٍ واحدٍ وحيد، يتكلّم بلسان الوطن ويُملي على أفراده مشاعرهم القوميّة، وما يجب أن يحلموا به لبلادهم وما لا يجب، الفرد الحاكم يصير في نفسه دستوراً ونظامَ حياةٍ لمجتمع القطيع الذي تُلهبه توزيعاتٌ موسيقيّةٌ زاعقة، ومفرداتٌ تقول له إن "حبَّ الوطن فَرْضٌ عليه" ومن يخالف الفرض كفر بالإله الذي فَرَضَ الفَرْض..

والأسئلة المؤلمة تقول: هل نحن بحاجة إلى أغنيةٍ وطنيّةٍ أصلاً؟ ماذا ربحنا من أغانينا؟ هل تقدّمنا وتطوّرت لدينا العلوم والفنون؟ هل تطوّر لدينا الإنسان؟ طيّب.. هل تطوّرت فنون الغناء نفسه؟ أبداً.. لا نزال في دائرةٍ ضيّقةٍ جدّاً من التداعيات والتكرارات، لا نجد لنا في أرض الابتكار موقعاً، تتوارث أجيالنا أفكار الأبويّة والامتدادات وإعادة الإنتاج، وقد يكون لمرض التكرار والوقوف "محلّك سر" أسبابٌ كثيرة، منها ما يتعلّق بفهمنا للدين الواحد، ومنها ما يتعلّق بأسطورة الحاكم الأبدي، ومنها ما يتعلّق بعشقنا للأناشيد والقصائد المتشابهة.

لم نسمع فرنسيّاً احتلَّ هتلر المجرم أرضَه يغنّي مكسوراً "أخي جاوز الظالمون المدى"، كما فعل الموسيقار محمد عبد الوهاب، في خمسينيات القرن العشرين، قرن الهزائم والنكبات والنكسات العربيّة.
صحيحٌ أنني من دعاة التمسّك بشكل أغنيتنا، لكن الوضع إزاء ما يسمى بالأغنية الوطنيّة أصبح ينذر بمأساةٍ حقيقيّة، فقد صارت الأغنية الوطنيّة أداة السلطة في الدعوة لأيِّ حشدٍ تريده.

إن ما يسمّى بالأغنية الوطنيّة العربيّة يحتاج إلى إعادة نظر، كمفهومٍ وتطبيق، فمن حيث المفهوم نريد تعريفاً لها والغرض من ورائها.

فالأغنية في جوهرها تعبيرٌ عن موقفٍ مغايرٍ كاشف، والأغنية الوطنيّة هي التي تناقش الواقع، الواقع الرديء، وفي محاولة بحثنا عن الأغنية الوحيدة التي بإمكانها فعل ذلك، فلن نجد أفضل من "أغاني المهرجانات".

فهل نحتاج إلى أغنيةٍ وطنيّة؟

لا أعرف إجابةً محدّدة، لكن المؤكّد أننا بحاجةٍ إلى أغنية موقفٍ جديد يمكن الاعتقاد فيه، فلا يمكن تصوّر أن يُلحّن الملحّن أو يغنّي المغنّي دون موقفٍ سياسي وفكري، فبخلاف ذلك نحن نستخدم الأغنية الوطنيّة استخدام المناديل في الحمّامات، فما نحن عليه من استعارة أصواتٍ عربيّةٍ لحشد الركود وتثبيت أركان الدولة القديمة، ما هو إلّا مفهوم مرضي للأغاني الوطنيّة، فالأغنية عموماً في جوهرها تعبيرٌ عن موقفٍ مغايرٍ كاشف، سواء عاطفي أو سياسي، والأغنية الوطنيّة هي التي تناقش الواقع، الواقع الرديء، وفي محاولة بحثنا عن الأغنية الوحيدة التي بإمكانها فعل ذلك، فلن نجد أفضل من "أغاني المهرجانات"، التي نسبتها المجتمعات إلى الطبقات الفقيرة والمهمّشة، والتي أتت من العشوائيّات، وإن مصريّة وصدق هذه الأغاني وما تحتويه من معاني تمرّد، لهي النموذج الأمثل لما يسمّى بـ"الأغنية الوطنيّة" المرشّحة للتواجد، بدلاً من الأغنية الحاليّة والسابقة التي نرشّحها للإلغاء والنسف.

أغاني المهرجانات رخيصة التكلفة في صناعتها، يمكن للجميع فيها أن يستخدم التكنولوجيا الحديثة ليعبّر عما يريده لوطنه، وما يراه من واقع سياسي ومعيشي يقوم على القهر والإفقار، وهذه بالتأكيد دعوةٌ لإلغاء ما اعتدنا عليه من أغنياتٍ وطنيّة، بما فيها النشيد الوطني، واستبدالها بأغنياتٍ تطرح كلماتٍ أكثر جرأةً وموضوعاتٍ غير مطروقة عن الوطن وأصحابه، أصحابه الحقيقيين، الذين يعيشون مشاكله لا الذين ينعمون بقصوره.

نعم أدعو إلى ابتكار أغنيةٍ أخرى غير تلك التي امتُهنت، سواء باللطم على غدر الزمان أو بتمجيد التماثيل، أو التي تدعو وتشارك في الانحطاط السياسي الذي بلغناه، وبدلاً من أغنية "دي فركة كعب وهتعملها"، التي لا يقول لنا مضمونها كيف سنعملها؟ سنبحث عن الناس الذين يمثّلون الوطن ونسمعهم يغنّون ما يريدون، حتى لو كانت أغنياتٍ ذات مضمونٍ سلبي في مراحله الأولى، لا بأس من بعض السقطات، فيوماً ما سنخرج من مستنقعنا ونرتقي لتحقيق مفهومَين أبقى وأهمّ تأثيراً، هما التمرّد على واقعٍ مشوّه وقيمة التغيير، اللذين يليقان بكلّ تأكيد بأغنيةٍ سننسبها لاحقاً لاسم الوطن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard