شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما اعتقلتني ميلشيا مسلحة في ليبيا

عندما اعتقلتني ميلشيا مسلحة في ليبيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 1 يونيو 201901:43 م

وكنت حينها أنا قطعة اللحم التي لا تمتلك شيئاً في جيبها...

ولأني كاتب لا أنتمي إلى ميليشيا من ميليشيات الثوار، اعتقلتني ميليشيا مسلحة، أفرادها لم يقرأوا سطراً مما كتبت طوال أكثر من عشر سنوات. عرفت هذا عبر طريقين اثنين: الأوّل أنهم لم يكونوا يعرفون اسمي وهم يكيلون لي الركلات بأقدامهم، وأنا، قطعة اللحم مكبّلة الأقدام، أمامهم؛ والثاني أني رأيت جهلهم في ما أقول، وهم يسألونني عن إجابات لم يهتمّ أي منهم بمعرفتها أصلاً. كنا نتحدث نفس اللغة، لكنهم كانوا ضائعين في الترجمة.

عرفت ذلك اليوم أن كل ما اعتقدته صحيح. نعم، لقد تحولنا الى شعب مثير للشفقة، شعب فقد بسبب التديّن الطائش معنى الخير، الحق والجمال، فبعد أن أزالوا الكيس من على رأسي رأيت أمامي شباباً في مقتبل العمر، يحملون فوق أكتافهم رؤوساً تحوي نصف فكرة واحدة، مفادها أن كلاً منهم يحمل الله في جيبه، ولقد كنت أنا المقيّد أمامهم لأني، كما قالوا، مرتين عدو الله وعشر مرات عدو الشعب والثورة، لقد كانوا يتحدثون تارةً كأنهم الشعب، وتارةً أخرى وكأنهم الله، لكني حينها كنت أرى أشياء أخرى، كنت أرى القيود في أيديهم وألسنتهم، كنت أعرف وأنا أرى مسدسات وسكيناً يهددني حامله بالذبح إذا لم أعترف بشيء لم يقل لي ما هو، كنت أعرف أن جلهم سيموت قبلي، من يحمل بندقية لا بد أن تقوم يوماً ما رصاصة بالمرور عبره.شعرت بالحزن، لا على نفسي، فلقد حدث الأمر يوم ذكرى ميلادي، العاشر من أكتوبر 2014، ولأني أؤمن بأن الله لا يحب اللعب بالأرقام، كنت أعرف أنه ليس من العدل أن أموت في يوم ميلادي، إنها صدفة حسنة ببساطة لا أستحقها.

"الذي أثار شفقتي شاب لم يتجاوز من العمر نصف سنوات عمري سوى بسنوات. كان اسمه عبد الله، كلهم كان اسمهم عبد الله"

بلدي تحوّل الى مستعمرة وهابية، دولة يسكنها أشرار، والقليل من الناس لأجل تكملة العدد في قائمة السكان، فوق صحراء كبيرة ينام الجميع فيها عندما يشعرون بالظمأ، لنسيان عطشهم عبر حلم مبلول. إن الأمر أسوأ من حدوث كارثة طبيعية، كزلزال يقلب الكوكب رأساً على عقب، أو طوفان يملأ الصحراء الكبرى بالمياه المالحة وجثث الأسماك الميتة. رأيت هذه الصورة قبل عشر سنوات، لكن يوم اختطافي تحولت هذه الصورة الى حقيقة حيّة. كان يركلني شخص يؤمن بأن شريعة الله يمكن اختصارها في القدرة على قتل من لا يكرر كلامه، لكن الذي أثار شفقتي شاب لم يتجاوز من العمر نصف سنوات عمري سوى بسنوات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. كان اسمه عبد الله. كلهم كان اسمهم عبد الله.

كان الأمر كله حول قطعة اللحم، تلك التي قامت القطة بالتهامها، تلك المبعثرة في أقصى الغرفة، أو تلك التي تصلّي لإله تعتقده في جيبها.كان جميع عبيد الله يحرّمون كل شيء يمكن أن يرى عبره المرء جمال الكون، الموسيقى، مصافحة النساء، حتى أمهاتهم. كانوا جميعاً مثيرين للشفقة وهم يصطفون كقطع من اللحم للصلاة، ووراءهم تقبع جثتي حيّة حتى يقرر أحدهم خلاف ذلك. في ليبيا واحد زائد واحد لا تساوي شيئاً، ولهذا لم يكن عددهم حقيقياً، بمقدار أهمية ذلك المراهق الذي يحمل في يد مسدساً وفي الأخرى قطعة لحم قام برميها إلى قطة اقتربت وهي ترتعش، من طبق العشاء.

رأيت في عيني هذا الشاب الغاضب وهو يصفعني، شعباً بكامله تحركه الكراهية الموصلة للهذيان، رأيت في عبد الله المقاتل كل شيء يستحق الشفقة، فالناس أكثر أنانيةً من أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن سبب أخطائهم، وكان عبد الله خطأً ارتكبه والداه، الدولة، الجامع، المدرسة بل والمجتمع كاملاً. ما يحدث في بلدي طوفان يجلب الموت والعار والحظ العاثر أيضاً، ومَن ينجو من الأول لا بد وأن يقع في الثاني والثالث مجتمعين.

أنت كلب

أنت مدمن مخدرات

أنت زير نساء

أنت عميل للمخابرات

أنت شاذ جنسيّاً

أنت ملحد لأنك لا تحفظ القرآن

أنت ملحد مرّتين لأنك تحفظ القرآن

أنت كلب للمرة الثانية مع تجاهل العد

أنت ابن كلب

أنت تعمل مع الآخرين ضدنا

نحن هم الآخرون

بعد أن أزالوا الكيس من على رأسي رأيت أمامي شباباً في مقتبل العمر، يحملون فوق أكتافهم رؤوساً تحوي نصف فكرة واحدة، مفادها أن كلاً منهم يحمل الله في جيبه، وكنت أنا ، كما قالوا، عدو الله  وعدو الشعب والثورة

كان جميع عبيد الله يحرّمون كل شيء يمكن أن يرى عبره المرء جمال الكون، الموسيقى، مصافحة النساء، حتى أمهاتهم. كانوا جميعاً مثيرين للشفقة وهم يصطفّون كقطع من اللحم للصلاة، ووراءهم تقبع جثتي حيّةً

كلها تهم ألقتها جماعة المؤمنين بالله والثورة فوق كاهلي، وأنا أجيبهم بثقة لم أعرف سببها، عبر سؤال مفاده: هل الحياة الممكنة هي التي يعيشها شخص باحثاً فقط عن الأعداء؟

لكن نظرات السادية من أعين عبدالله كانت شيئاً آخر، شيئاً لا يثير الرعب بمقدار كونه شيئاً يثير القلق والشفقة. رأيت هذه النظرة في أعين جميع من يبررون جرائمهم بكونها لا تقع داخل دائرة الحلال والحرام المقيدة بنوايا صاحب مطبعة دار الإفتاء في مملكة آل سعود.

بعض النوايا الحسنة توصل إلى جهنم، فهي تبرر الكراهية والعنف بفتاوى تدوّي بها مساجد مملوءة بمصلين تهوي على رؤوسهم كل جمعة، اللعنات ضد الآخرين جميعاً، حتى هم أنفسهم، الساكتون، مَن يعتقدون أنهم يمارسون الصبر، بعد أن قاموا بردم طريق الجامع بلعنات الجمعة السابقة.

"عبد الله كان ضحية الجهل، لكن الأسوأ هو أن تكون ضحية الجهل المقدّس، حيث كل الجرائم التي ترتكبها، هي الفضيلة بعينها".

بعد أن ركلني على بطني بقدمه، التقط سكيناً وبدأ بالتلويح بها. كانت تجربتي بسيطة عند مقارنتها بقصص المختفين في زنازين الجمعيات الخيرية المدججة بالسلاح. أعرف صديقاً ظل عاماً كاملاً في غرفة مغلقة لا أحد يعرف في يد مَن يوجد مفتاحها، بسبب تهمة أن سجانه ليس متأكداً من شدة إيمانه بعد أن حاول قياسه بالمسطرة وعجز عن فعل ذلك.وهذه تجربة عشتها وأعتقد أني لم أخطئ في فهمها، تجربة الحرب غير المبررة، وتحول جيل كامل من الأطفال إلى أعضاء نشطين في ميليشيات تقاتل بعضها البعض، دونما سبب يمكن عبره تبرير القتل، سوى فتوى رخيصة، نعم لا يمكن تبرر القتل أبداً، لكني أتحدث عن مستعمرة وهابيّة تحول فيها الشعب إلى مجرد قطيع من حملة الرماح المصوبة نحو الجميع، قطيع من الذئاب المنفردة، حيث القتل يوصل إلى بداية الحياة، إنه عالم مقلوب، صعود المنحدر فيه، يوصل الى الأسفل.

كان عبد الله يرى العالم كما يراه أرنب ميت مفتوح العينين، يملأ قلبه إيمان سببه صدفة مكان الميلاد، وكان المكان مجرد بئر مظلم مليء بمراهقين يداومون على فعل الأخطاء التي يعتقدون أنها ستجعل العالم يعلم بوجودهم، كرجال بإمكانهم تغيير هذا العالم نحو الجنة، جيران لجهنم، غداً. عبد الله كان ضحية الجهل، لكن الأسوأ هو أن تكون ضحية الجهل المقدّس، حيث كل الجرائم التي ترتكبها، هي الفضيلة بعينها. كان يتهمني بالكفر رغم أنه لم يدخل جمجمتي ليعرف مساحة ضميري الصالح، وجرائمي التي اقترفتها، ابتداء من كتابة اسم صديقي على حائط الجيران وصولاً إلى ممارسة العادة السرية لغرض النوم متعباً، لكنه كان جازماً أن السماء خارج جمجمته أصغر من أن تحوي شيئاً آخر، خلاف ما تعتقده جثة جدٍّ لا يُعرف مكان قبره.

والغد لا يأتي أبداً...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard