شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
من الاقتتال الداخلي إلى التوسع الإمبريالي...

من الاقتتال الداخلي إلى التوسع الإمبريالي... "قاعدة توينبي" في التاريخ الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 1 يونيو 201906:05 م

في كتابه "دراسة للتاريخ"، والذي عرض فيه تاريخ حضارات إنسانية عدّة، يذهب المؤرخ الإنكليزي الشهير أرنولد توينبي إلى أن أحد العوامل المهمة في نشوء أيّة حضارة يتمثل في قدرتها على السيطرة على البيئة البشرية المحيطة بها.

ما قصده توينبي هو أن الوحدة السياسية التي تؤسس حضارة تُخضع جميع العناصر البشرية المحيطة بها لسلطتها، ويتم الاستفادة من قدراتها الحربية في مشروع إمبريالي ضخم يحل محلّ الحروب الصغيرة والمتكررة التي كانت تندلع قبل ذلك بين تلك العناصر.

هذه القاعدة التي صاغها توينبي في كتابه لها الكثير من الشواهد في التاريخ الإسلامي، وأيضاً في تاريخ بعض الحضارات التي تقاطعت تواريخها مع تاريخ المسلمين.

العرب... من الردة إلى الفتوحات الكبرى

تمكن النبي محمد بعد هجرته إلى يثرب عام 622، وعلى مدار عشرة أعوام متواصلة، من تأسيس دولة قوية، مرهوبة الجانب، بحيث دانت لها معظم القبائل العربية.

بعد وفاة الرسول عام 632، أعلنت قبائل كثيرة رفضها خلافة أبي بكر الصديق، وظهر ذلك في امتناعها عن دفع الزكاة والصدقات، في ما سمته المصادر الإسلامية بـ"حركة الردة".

تتفق معظم المصادر التاريخية، ومنها "تاريخ الرسل والملوك" للطبري و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير، على أن أكثرية القبائل اشتركت في تلك الحركة، ولم تشذّ عن الميل العام سوى القبائل التي اعترفت بسلطة أبي بكر في كل من المدينة ومكة والطائف.

اشتركت القبائل التي سُميت بـ"المرتدة" في الامتناع عن دفع أموال الزكاة للسلطة المتمركزة في المدينة. وفي حين بقيت مجموعة منها على إسلامها، اتّبع بعضها مجموعة من مدعي النبوة، من أشهرهم الأسود العنسي الذي اتبعته قبيلة مذحج اليمنية، مسيلمة "الكذاب" الذي انضم له قومه من بني حنيفة وسجاح بنت الحارث التي خضع لها بنو تميم.

ورغم خطورة حركة الردة، إلا أن السلطة المركزية في المدينة تمكنت من القضاء التام عليها، واستطاع قادة حملاتها العسكرية تحقيق انتصارات متتابعة على جموع "المرتدين" في البحرين واليمن وعمان.

ويُلاحظ أن القبائل العربية التي تلقت الهزيمة على يد دولة الخلافة، سرعان ما اندمجت في الجيوش الإسلامية المتوجهة للقتال على الجبهات العراقية والشامية، بعدما تيقنت من أن الخضوع للسلطة المركزية من شأنه أن يضمن لها الكثير من المغانم والمكاسب المادية.

يذكر الطبري في تاريخه أن هذا التحول وقع في الأيام الأولى من فترة خلافة عمر بن الخطاب، عام 634، فعندما قدم المُثنى بن حارثة الشيباني قائد الجبهة العراقية إلى المدينة طالباً المدد، أعلن عمر التعبئة العامة، وسمح للمرة الأولى بانضمام "المرتدين" الذين رجعوا للإسلام إلى الجيوش الإسلامية.

ويفسر الدكتور محمد سهيل طقوش، في كتابه "تاريخ الخلفاء الراشدين: الفتوحات والإنجازات السياسية"، ما جرى بأن الخليفة الثاني كان يحتاج لاستثمار طاقة القبائل العربية في الفتوحات التوسعية، لتفريغ طاقتها وضمان عدم معارضتها للسلطة المركزية.

مشاركة "المرتدين" القدامى في الفتوحات التوسعية لم تأخذ الشكل الاعتيادي أو الهامشي، بل إن كثيرين منهم استطاعوا تحقيق مجد عسكري كبير من خلالها، ومن أهم هؤلاء طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معد يكرب، اللذان يذكر الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" الكثير من أخبار شجاعتهما في المعارك ضد الفرس على الجبهة العراقية.

أيضاً، لعبت قبائل "مرتدة" كثيرة أدواراً فارقة في فتح البلاد المحيطة بشبه الجزيرة العربية. فعلى سبيل المثال، يذكر الواقدي في كتابه "فتوح الشام" أن قبائل حمير ومذحج ساهمت بشكل فعال في الانتصار على البيزنطيين في الكثير من المعارك.

ويروي الطبري كيف شاركت قبائل تميم وتغلب وربيعة في الفتوحات على الجبهة الفارسية، كما يذكر ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" أن القوام الأساسي للجيش الإسلامي الذي قاده عمرو بن العاص لفتح مصر كان من قبيلتي غافق وعك، وكانتا من بين القبائل التي سبق لها الاشتراك في حركة الردة.

الأتراك... حروب القبائل الرحالة التي شيدت إمبراطوريتين

كان الأتراك من أبرز الأقوام التي شهد تاريخها الطويل تكراراً للظاهرة التي تحدث عنها توينبي في كتابه، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما وقع عند تأسيس الإمبراطوريتين السلجوقية والعثمانية.

يذكر حسن أحمد محمود في كتابه "العالم الإسلامي في العصر العباسي"، أن السلاجقة هم قبيلة كبيرة من قبائل الأتراك الأوغوز الذين كانوا يعيشون في آسيا الوسطى في القرن العاشر الميلادي، ثم دخلوا في صراعات محتدمة مع القبائل التركية الأخرى التي تسكن في تركستان، ما أسفر عن ارتحالهم مع مجموعة من القبائل الموالية لهم إلى بعض المدن القريبة من نهر سيحون.

ومع بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، اصطدم هؤلاء السلاجقة بالدولة الغزنوية ذات الأصول التركية، والتي كانت تسيطر على مساحات واسعة من بلاد فارس وإقليم خراسان.

هذا الصراع المتكرر بين الشعوب التركية الإسلامية أسفر في نهايته عن وصول زعيم السلاجقة طغرلبك إلى درجة من القوة لم يتمتع بها أسلافه، فاستطاع أن يهزم أعداءه الغزنويين في معركة داندانقان الفاصلة عام 1039م، لتتوحد جميع الشعوب التركية تحت رايته، وليبدأ الأتراك بعد ذلك في تأسيس إمبراطوريتهم الواسعة في آسيا الوسطى وإيران وأفغانستان والعراق والشام والأناضول.

لاحقاً، مع أفول الإمبراطورية السلجوقية وتفتتها إلى مجموعة من الدول وانتشار الكثير من العشائر التركمانية في منطقة الأناضول وحوض نهر دجلة، تهيأت الظروف المناسبة لظهور قوة تركية جديدة وفتية في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، وهي القوة العثمانية.

عشيرة كايي كانت واحدة من بين العشائر التركية التي دخلت إلى البلاد الإسلامية، هرباً من الضغط الذي فرضته القبائل المغولية في آسيا الوسطى. يذكر المؤرخ محمد فؤاد كوبريلي في كتابه "قيام الدولة العثمانية" أن هناك الكثير من النظريات التي وضعها الباحثون لتفسير قيام الدولة العثمانية، واحدة من أهمها هي تلك التي تذهب إلى أنه لما دخلت عشيرة كايي إلى حدود العالم الإسلامي، أعلن زعيمها أرطغل ولاءه للأمير السلجوقي علاء الدين كيقباذ، سلطان قونية، وانضم برجاله إلى القوات السلجوقية المتقاتلة ضد الدولة الخوارزمية التركية.

بحسب تلك النظرية، فإن الحروب المتعاقبة التي اشترك فيها مقاتلو قبيلة كايي أكسبتهم خبرة ودراية قتالية لا يستهان بها، وسرعان ما استغلت العشيرة خبراتها تلك عندما ارتحلت للسكن على الحدود البيزنطية، إذ تمكن فرسان كايي من الانتصار على العشرات من العشائر البدوية الجوالة القريبة منهم، كما أنهم تغلبوا على الكثير من الجماعات اليونانية والبيزنطية القريبة منهم.

أسفر كل ذلك عن تزايد عدد الرجال في العشيرة، فدخل المهزومون في طاعة زعماء كايي، وانتسبوا إليهم، وتزاوجوا معهم، ما أدى في نهاية الأمر إلى تحول العشيرة الصغيرة إلى دولة كبيرة في عهد عثمان بن أرطغل، وتمكن العثمانيون في ما بعد من تأسيس إمبراطورية عظيمة انتشرت أملاكها في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا.

الأمازيغ... أنقذوا الإسلام في الأندلس

لما كان الأمازيغ الذين عاشوا في المغرب الكبير في القرون الوسطى ينتظمون على شكل قبائل متنافرة ومتناحرة كما كان حال العرب والأتراك في بداياتهم، كان من الطبيعي أن يشهد تاريخهم ظهور بعض النماذج المؤيدة لنظرية توينبي، من حيث مساهمة الصراعات القبلية المستمرة في انتهاج نهج توسعي إمبريالي.

في القرن الحادي عشر الميلادي، وفي منطقة الصحراء الغربية التي تقع اليوم ضمن حدود دولة موريتانيا، ظهرت الدعوة المرابطية على يد الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي، وهي دعوة دينية إصلاحية بالأساس.

يذكر ابن عذاري في كتابه "البيان المغرب" أن المرابطين دخلوا في حروب متتالية ضد القبائل الصنهاجية الجنوبية، والتي كان من أهمها قبائل لمتونة وجدالة ومسوفة.

الصراع بين القبائل الثلاث انتهى بتوحدها تحت راية ابن ياسين، وتوجههم في ما بعد ناحية المغرب الأقصى حيث دخلوا في معارك حامية الوطيس ضد القبائل الساكنة في بلاد السوس والمصامدة.

هذا التناحر الذي استمر لمدة تقترب من الثلاثين عاماً أسفر في النهاية عن ظهور الدولة المرابطية الكبرى التي سيطرت على مساحات واسعة في المغرب الكبير، كما مكّن سلاطين المرابطين من التدخل في الشؤون الأندلسية.

ووضح ذلك عام 479هـ/ 1086م، عندما خاض المرابطون معركة فاصلة ضد ألفونسو السادس ملك قشتالة، في سهل الزلاقة بالقرب من مدينة بطليوس، كما وضحت آثار التوسع الإمبريالي المرابطي عندما حرّك العاهل المرابطي يوسف بن تاشفين جحافله الجرارة مرة أخرى عام 483هـ/ 1090م، ليسقط حكم ملوك الطوائف ويستولي على الأندلس.

هذا النهج سرعان ما تكرر بشكل مشابه في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، وذلك على يد محمد بن تومرت مؤسس الدعوة الموحدية. يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" أن الفقيه ابن تومرت حرض قومه من قبائل المصامدة على النهوض في وجه المرابطين، واستجابت تلك القبائل لدعوته، فقامت بينهم وبين قبائل لمتونة حروب ومعارك متلاحقة، انتهت بإسقاط الدولة المرابطية وتأسيس الدولة الموحدية على أنقاضها.

الموحدون الذين خرجوا منتصرين من تلك المعارك القبلية وجهوا أنظارهم لإقامة إمبراطورية عظيمة لهم، وحركوا جيوشهم للسيطرة على جميع الأقاليم القريبة منهم، ففرضوا سلطانهم على المغرب الأوسط والأقصى، وسيطروا على الممالك الإفريقية الواقعة في الصحراء، كما استولوا على الأندلس، بحيث صارت إمبراطوريتهم ممتدة من "برقة شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن البحر المتوسط والأندلس شمالاً إلى الصحراء الإفريقية جنوباً"، بحسب ما يذكر الدكتور محمد قويدر في كتابه "التجارة الداخلية في المغرب الأقصى في عصر الموحدين".

تحدث المؤرخ أرنولد توينبي عن قاعدة تاريخية مفادها أن الحضارات تطلق مشاريع إمبريالية ضخمة تحل محلّ حروب سابقة بين مكوّناتها. هذه القاعدة لها الكثير من الشواهد في التاريخ الإسلامي...
لعبت قبائل كانت "مرتدة"، بحسب وصف التاريخ الرسمي، أدواراً فارقة في فتح البلاد المحيطة بشبه الجزيرة العربية، وفي نشر الإسلام

الصليبيون... إلى "أرض الرب" منعاً للقتال في أوروبا

نظرية توينبي لم تتحقق فقط في التاريخ الإسلامي، بل وقعت أيضا في تاريخ بعض الحضارات الأخرى التي تداخلت في بعض فتراتها مع تاريخ المسلمين، وأبرز الأمثلة على ذلك الحملات الصليبية.

يذكر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "ماهية الحروب الصليبية" أن التنافسات والتناحرات الداخلية في أوروبا تزايدت بشكل هائل في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي.

كانت أوروبا الغربية في ذلك الوقت مقسمة إلى إقطاعيات محددة، وكان النبلاء الأوروبيون دائماً ما يعملون على توسيع إقطاعياتهم، وهو ما نتج عنه الدخول في سلسلة لا نهاية لها من المعارك.

ويذكر قاسم أن الكنيسة الكاثوليكية عملت على وضع نهاية لتلك الحروب، فحددت فترات معينة يتوقف فيها القتال، عُرفت باسم "سلام الرب"، ولكن لما كان أكثر النبلاء والفرسان لا يأبهون لتلك الأعراف، فكرت البابوية في حل بديل، وهو الحروب الصليبية على بلاد الشام، فدعت إلى خروج الفرسان المسيحيين الأوروبيين من القارة العجوز، ليتوجهوا إلى أرض الرب في فلسطين، وهناك، تم استغلال قوة تلك الجحافل الصليبية في واحدة من أهم التوسعات الإمبريالية على مر التاريخ.

المغول... إحدى أضخم الإمبراطوريات عبر التاريخ

نموذج آخر هو التوسعات العسكرية المغولية في القرن الثالث عشر ميلادي، والتي قادها مجموعة من القادة المغول من أمثال جنكيزخان وقوبيلاي وهولاكو.

يذكر الدكتور السيد الباز العريني في كتابه "المغول" أنه كان هنالك عدد كبير من الشعوب التي تسكن منطقة منغوليا وآسيا الوسطى، ومن أهمها الأويغور، الخطاي، التتار، الكرايت، المركيت، النايمان، البرجقين، والمغول.

هذه الشعوب المختلفة في أصولها العرقية انتظمت على شكل تجمعات قبلية، وعاشت في ظل حالة من الاقتتال الداخلي المستمر، في محاولة لإيجاد الموارد اللازمة من الطعام والعشب لرعي قطعان الماشية.

يشير العريني إلى أن حالة الفوضى السياسية انتهت بعدما وصل الزعيم المغولي تيموجين إلى زعامة الشعب المغولي، إذ استطاع هذا القائد الذي اشتهر في المصادر التاريخية باسم جنكيزخان أن يوحد جميع تلك الشعوب في وحدة سياسية، وأن يشن الحروب المتوالية ضد جيرانه من الصينيين والمسلمين، ما أسفر في نهاية المطاف عن تأسيس واحدة من أضخم الإمبراطوريات عبر التاريخ.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard