شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"الفن لا يمكن أن يكون مزعجاً"... "ياسين" يرسم يومياته في السجون المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 31 مايو 201906:08 م

رفض الاسم الذي منحه إياه أهله بعد ولادته، وأحب أن يطلَق عليه اسم ياسين. وحينما أصبح على مشارف العشرين، رفض الواقع الاجتماعي في مصر إبان ثورة يناير فكلفه ذلك قرابة خمس سنوات من حريته، قضاها متنقلاً بين ستة سجون.

عقب خروجه من السجن أخيراً، أواخر العام الماضي، فاجأ ياسين محمد الأصدقاء بلوحات رسمها وراء الجدران يرصد فيها أحزانه وأفراحه ومآسيه وقصصاً إنسانية وتفاصيل عن حياته بصحبة مساجين آخرين.

"الواقع غير السينما"

رسم ياسين هذا الرسم في الأول من سبتمبر 2018 في سجن وادي النطرون في شمال مصر. يظهر فيه عدد من المساجين يفترشون الأرض نياماً على جوانبهم، بعكس الصورة السائدة التي تروج لها الدراما والسينما عن أسرة نظيفة أحياناً، مستقلة أو من عدة طبقات.

عن هذا الرسم، يروي ياسين لرصيف22 أنه في السجن، هذه هي المساحات الممنوحة للأفراد، بحسب عدد نزلاء الزنزانة، فتكون حصة الفرد 30 سنتيمتراً وأحياناً 40 وأحياناً 50.

يوضح في رسمه كيف ينام المساجين في هذه المساحة الضيّقة والمخصصة لكل شيء من النوم إلى اللعب والأكل. "هذه هي فقط مساحة السجين داخل زنزانته ليس ليوم أو لاثنين بل لعدة سنوات"، يقول.

يروي ياسين أنه تنقّل بين ستة سجون و"لم أرَ واحداً منها فيه أسرة، كل السجون كنا ننام فيها على الأرض، نفترش بطاطين وأغطية صوف خشنة وأحياناً لا توجد حتى هذه الأغطية الخشنة".

الدرويش "عم عبد العاطي"

هذا الرسم رسمه ياسين في 10 أغسطس 2018، في زنزانته في سجن وادي النطرون. يروي أنه لأحد رفاقه في السجن: رجل في منتصف عمره يدعى "عم عبد العاطي"، كان يعمل مدرساً لعلوم الكومبيوتر وحكم عليه في "قضية غريبة" بستة أشهر حبس. وفي السجن، ظهرت لديه حالة غريبة إذ كان يستيقظ في منتصف الليل ويصلي بملابسه الداخلية وأحياناً يكون نائماً وهو يصلي ويهمهم بالصلاة كما لو أنه درويش متصوف.

انتظار "عم هشام" للحرية

في هذا الرسم الذي رسمه في 22 مارس 2018، في سجن استقبال طرة، يظهر رجل ينتظر على كرسي صغير أمام باب السجن المفتوح، منتظراً خروجه.

هذا "عم هشام"، ويروي ياسين أنه قضى ثلاثة أعوام قيد التحقيق في قضيتين إحداهما الانضمام إلى جماعة محظورة و"هو يبدو من مظهره أنه أبعد ما يكون عن الانتماء إلى أيّة جماعة سياسية، فهو لم يكن يفهم في السياسة من الأساس".

وبعد ثلاث سنوات، حصل "عم هشام" على البراءة في القضيتين وراح ينتظر الإفراج عنه وانتهاء إجراءات خروجه حتى يتم ترحيله إلى قسم الشرطة ومن هنالك يُخلي سبيله. ولكن، في أحد تلك الأيام التي كان ينتظر فيها مناداته، حاول أصدقاؤه إيقاظه صباحاً لتناول الفطور فوجدوه ميتاً. "كان أقصى طموحه أن يخرج من السجن".

"حب الحياة والأمل"

في هذا الرسم، يظهر رجل تخرج من موضع رأسه زهور، ويقوم بصناعة وحياكة شباك للصيد بيديه، ورسمه ياسين في أغسطس 2018، في سجن وادي النطرون.

هو لصياد من سيناء كان يقضي عقوبة خمس سنوات سجن، وكل يوم كان ينزوي إلى ركن، أثناء فترة التريّض، ليقوم بصناعة شباك الصيد. كان لديه أمل بأنه حينما يخرج سيعود إلى مهنة صيد الأسماك مرة أخرى، ورسمه ياسين لأنه كان يرى أنه يعطيهم طاقة. أما الورد، فهو تعبير عن حب الحياة والأمل وتحدي اليأس المسيطر على المساجين.

مساجين من بصل

هذا الرسم رسمه ياسين في الخامس من سبتمبر 2018، في زنزانته في سجن وادي النطرون. تخيّل فيه أن رؤوساً من البصل نبتت مكان رؤوس رفاقه في الزنزانه.

يقول لرصيف22 إن البصل عنصر أساسي في حياة المساجين، فهم يستخدمونه كل يوم للطهي وابتكار أكلات جديدة، وحينما ينتهي تقع مشكلة كبيرة. وفي أحد الأيام، اكتشف أن الزنزانة بأكلمها تعج برائحة البصل، حتى المساجين أنفسهم كانت تفوح منهم هذه الرائحة فتخيل كما لو أنهم بصلات زُرعت في هذا المكان ويفتقدون للأهلية بسبب تعامل الدولة معهم ككائنات بلا أية أهمية أو فائدة.

خمس سنوات في رسم

هذا الرسم رسمه ياسين في العاشر من مارس 2018 في سجن طرة استقبال. قسّم مساحته إلى خمس خانات أفقية وأربع عامودية وفي كل خانة وضع مقتطفات صغيرة من حياته في آخر خمس سنوات.

وعنه، قال: "هذه الصورة تلخص حياتي في آخر خمس سنوات، بدءاً من مشاركتي في تظاهرة في أحداث مجلس الشورى، ثم إلقاء القبض علي والتحقيق معي ودخولي السجن، ثم قصة ثاني قضية ضدي عام 2014 بعدما تضامنت مع الفتيات اللواتي يتعرضن للأذى في معسكرات الأمن المركزي وشاركت في تظاهرة رافضاً ذلك وألقي القبض عليّ وتعذبت في معسكرات أمن الدولة وبعدها تم سجني، ثم ثالث قضية وسببها أني شاركت في التظاهرات الرافضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير فقبض علي وجرى التحقيق معي ثم سجنت، وصولاً إلى آخر مرحلة حين كنت أترقب أن يتم القبض علي، إذ كنت هارباً من قضية تظاهرة طلعت حرب، وبعها ذهبت وسلمت نفسي... ثم تنتهي الصور بسجن سجن سجن".

سمر

في هذا الرسم الذي رسمه ياسين في 22 مارس 2018، في زنزانته في سجن وادي النطرون، يظهر شخصان يتسامران خلف أحد الأبواب، وبجوارهما أشياء معلقة في صناديق خشبية.

حصل "عم هشام" على البراءة وراح ينتظر الإفراج عنه وإخلاء سبيله. ولكن، في أحد الأيام، حاول أصدقاؤه إيقاظه صباحاً لتناول الفطور فوجدوه ميتاً... قصص سجناء مصريين ترويها رسومات سجين سابق
سُجن عمرو في قضية مخدرات، لكنه اتهم لاحقاً بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. كان يتمنى أن يقف أمام القاضي ويخبره بأنه ليس ملتزماً دينياً وأنه "بتاع مخدرات"... قصص سجناء مصريين ترويها رسومات سجين سابق

يروي ياسين أنه يومياً، بعد الساعة 12 ليلاً، ينام معظم المساجين، لكن هناك مَن يسهر طوال الليل بجوار الباب، وهو المكان المفضل للمساجين، يتحدث مع زميله بأي موضوع حتى إذا كانا قد تكلما فيه سابقاً. "يحبون الجلوس هناك وتدخين السجائر والتحدث بأي شيء"، يقول.

توم هانكس

هذا رسم للمثل الأمريكي توم هانكس. رسمه ياسين لأنه يحبه جداً ويتمنى مقابلته وأن تصل صورته إليه، وهو أول رسم رسمه داخل محبسه في سجن وادي النطرون وهو مرسوم بأقلام الحبر على تي شيرت أبيض لا يزال يحتفظ به في بيته حتى الآن.

يروي ياسين لرصيف22 أنه في أيام حبسه الأولى، وبعد خروجه من أزمة كادت تودي به إلى الانتحار، قرر أن يخرج من حالة الرفض والاكتئاب بالرسم وهو أكثر شيء يحبه، وراح يرسم على الـ"تي شيرتات" البيضاء الخاصة بالسجن، وكان يرسم شخصيات كرتونية وصوراً لأشخاص، من زملائه المساجين، ثم بعدها رسم أوضاع السجن وتلقى عقاباً على ذلك، فقرر الاقتصار على رسم الأشخاص، خاصة الفنانين الذين يحبهم مثل هانكس.

وعن الرسم، يروي: "رسمته بأقلام حبر. هكذا كانت النتيجة من المرة الأولى. كنت أرفض استخدام الرصاص. لا أحب تصحيح الأخطاء. أحب أن تظهر النتيجة مثالية من المرة الأولى للمحاولة، مؤمناً بمبدأ أن النقطة التي أضعها على الورقة لا يمكن أن أحذفها إنما من الممكن تجميلها أو الرسم حولها أو تحويلها إلى شكل مفهوم... وإذا استخدمت قلم الرصاص سأعتاد على الخطأ وستقل مهارتي ولن أهتم بذلك طالما يمكن تصويب الخطأ".

المشهد من داخل الزنزانة


هذا ما كان يراه ياسين خارج زنزانته: آية قرآنية {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}، وهي آية أعطته الأمل لبعض من الوقت، وكانت الصعوبة في الأبعاد التي تظهر منها الآية من خلف البوابة بفعل اتجاه الضوء.

لم يدرس ياسين الرسم، ويقول إنه كان يفكر أوتوماتيكياً في كل هذه العمليات الهندسية أثناء الرسم.

"أنا بتاع مخدرات"

في هذا الرسم الذي رسمه ياسين في التاسع من سبتمبر 2018، في سجن وادي النطرون، يظهر صديق زنزانته، عمرو، ويروي أنه سُجن في قضية مخدرات، لكنه متهم في قضية سياسية بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، وحكم عليه بعامين سجن، قضاهما مع المساجين السياسيين.

ويضيف أن عمرو كان يتمنى طوال تلك المدة أن يقف أمام القاضي ويسمح له بالحديث ويخبره أنه ليس سياسياً ولا حتى يعرف الالتزام الديني، ويخبره أنه "بتاع مخدرات" وإذا أراد أن يحكم عليه في قضية مخدرات جديدة فليفعل لأن ذلك سيكون أرحم من الاتهام بقضية سياسية "مَن يدخل بها لا يخرج أبداً".

"الفن لا يمكن أن يكون مزعجاً"

تحدث ياسين عن استخدامه ألواناً محدودة في رسومه، وأعاد الأمر إلى عدة أسباب أهمها أنه يحب البساطة حتى لو كانت في الرسم عناصر كثيرة، كما أن الأدوات التي كان يستخدمها داخل السجن قليلة جداً وكانت تدخل له بالتهريب، فلم يكن معه سوى "أنبوبين أكريليك" أصفر وأزرق، وكان يأتي باللون الأخضر من الأقلام فيخرج حبرها ويستخدمه، مشيراً إلى أن التفتيش ضبط بعض رسوماته داخل السجن وصادرها ولا يعرف عنها شيئاً حتى الآن.

يعتبر ياسين أن "الفن لا يمكن أن يكون مزعجاً مهما كان صادقاً، ويعبّر عن حالة أذى يتعرض لها شخص أو أشخاص".

عن حياة السجن، يروي أن كل الأيام تشبه بعضها: "أستيقظ من النوم إما في أول اليوم أو منتصف النهار، ثم أذهب للتريض، ويكون الوقت المخصص لذلك خمس أو عشر دقائق يومياً وأحياناً ساعتين وأحياناً لا شيء، ثم أذهب لتفقد الملابس المغسولة في اليوم الماضي، ومتابعة النباتات التي قمت بزراعتها. هذا في النهار، أما ليلاً فتكون الحالة مختلفة، وأقضي وقتي إما بالحديث أو الكتابة أو الرسم ولكل سجين حالته الخاصة".

وعن حياته خارج السجن، يقول إنه كسر رهبة السجن التي يخشاها كثيرون، لكنه لا يحب العودة إليه مرة أخرى. "لدي حياة وطموح وأحلام أريد أن أحياها وأعيشها وأحققها".

يصف أول يوم له خارج أسوار السجن قائلاً: "كنت أتنقل كثيراً. كنت أخشى أن أظل في مكان واحد لمدة طويلة. كانت غرفتي ذات طلاء أبيض وستائر روسية منفوشة وشفافة وفيها مكتبة تحتوي كتباً كثيرة. لم أعرف كيف أفتح باب غرفتي فقد اعتدت أن يفتح لي أحدهم الباب. كان كل شيء صادماً ومختلفاً وكنت أرى الشوارع والطرق المستقيمة كما لو أنها صاعدة وهابطة. رحت أعيد اكتشاف كل شيء وكأني أقوم بالأمر لأول مرة. جلست في الحمام لمدة أربع ساعات، ففي السجن الحمام ليس لك وحدك إنما في البيت امتلكت الحرية لاستخدمه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard