شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
القاهرة: لماذا يُهاجمون

القاهرة: لماذا يُهاجمون "وسط البلد" الآن تحديدًا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 مايو 201902:32 م

منذ أيّامٍ قليلةٍ، انطلق هاشتاج #وسط_البلد على موقعي فيسبوك وتويتر، بتغريداتٍ ساخرةٍ عن أشهر الجُمل التي يردّدها روّاد منطقة وسط القاهرة، والمعروفة بـ: وسط البلد. تكوّن فريقان، فريق السخرية من وسط البلد، وفريق الدفاع عنها. نستعرض معكم أبرز أسباب انتشار الهاشتاج، مع لمحةٍ تاريخيّةٍ عن المنطقة، وما تمثّله لسكّان القاهرة، والوافدين إليها.

منذ أيّامٍ قليلةٍ، انطلق هاشتاج #وسط_البلد على موقعي فيسبوك وتويتر، بتغريداتٍ ساخرةٍ عن أشهر الجُمل التي يردّدها روّاد منطقة وسط القاهرة، والمعروفة بـ: وسط البلد.

قصّة القاهرة الخديويّة

تأسّست منطقة وسط البلد على الطراز المعماري الأوروبي، بعد زيارة الخديوي اسماعيل لباريس عام 1867. اتفق الخديوي مع المعماري الفرنسي "جورج يوجين هوسمان"، الذي خطّط باريس الحديثة في عهد نابليون الثالث، على تطبيق نفس الطراز في منطقة وسط القاهرة، والتي أًطلق عليها اسم "باريس الشرق"، أو "القاهرة الخديويّة". تبدأ القاهرة الخديويّة من كوبري قصر النيل وحتى ميدان العتبة، وفيها عددٌ من أبرز مباني القاهرة، مثل هيئة البريد المصري، والمبنى الأوّل لدار الأوبرا المصريّة الذي لم ينجُ من حريق القاهرة الكبرى، وتمَّ نقله إلى مكانه الحالي بين كوبري قصر النيل وحي الزمالك. يعتبر المؤرّخون أن تطبيق الطراز الأوروبي الحديث آنذاك، امتدادٌ لتمدّن القاهرة الذي بدأه محمد علي باشا، جدّ الخديوِي اسماعيل، ومؤسّس مصر الحديثة.

عُرفت منطقة وسط البلد بأنها مركز تلاقي الشعراء والكُتّاب والمثقّفين، والساسة، وكان لموقعها الجغرافي الذي يتوسّط القاهرة أثره في أهميتها السياسيّة، فشهدت تظاهرات أكثر لحظات التاريخ المصري تحوّلاً، بدايةً من الصراع مع الاحتلال البريطاني، مروراً بثورة يوليو وما تلاها، وحتى ثورة 25 يناير 2011.

اشتهرت وسط البلد بأنها مركزٌ تجاري، ومتنزّهٌ لعددٍ كبيرٍ من سكّان القاهرة والمحافظات الأخرى، قبل غزو المولات والماركات العالميّة، ومثّلت نقطة التقاء العديد من الطبقات الاجتماعيّة، ومركز جذب الاهتمامات الثقافيّة والفكريّة، وسكَن مبانيها عددٌ كبيرٌ من الفنانين/ات، الأجانب، والارستقراطيين. لم ينجُ الكثير منهم من هجمات التأميم التي تلت ثورة 1952، وهرب أغلبهم للخارج، أو هجروا مساكنهم وانتقلوا للأحياء السكنيّة البعيدة عن الزحام، لكن وسط البلد استمرّت في رمزيّتها الثقافيّة والسياسيّة حتى اليوم.

على مرّ العقود، اكتسبت منطقة وسط البلد شهرةً واسعةً بأنها ساحة للحرية، ورمز للتحرّر من القيود والسير عكس التيارات السائدة، سواء كانت سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة، وثقافيّة.

وسط البلد وثورة 25 يناير 2011

على مرّ العقود، اكتسبت منطقة وسط البلد شهرةً واسعةً بأنها ساحة للحرية، ورمز للتحرّر من القيود والسير عكس التيارات السائدة، سواء كانت سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة، وثقافيّة، زادت تلك الشهرة بعد 2011، بسبب التركيز الإعلامي المحلّي والعالمي على ميدان التحرير وما حوله، باعتباره "رمز الثورة المصريّة"، وبالتالي، أصبحت منطقة وسط البلد رمزاً ثوريّاً، وملاذاً للوافدين الجدد، الذين وجدوا في الثورة وفي الشباب المُشاركين فيها، ما يجمع الفضول بالسعي وراء آفاقٍ فكريّةٍ متعدّدة، انعكست تلك الرمزيّة في الاحتفاء بالشباب في السينما والدراما، وأصبحت مقاهي وحانات وسط البلد أكثر ارتياداً مما كانت عليه قبل 2011.


ومع صعود تيّارات سياسيّة عُرفت بولائها لدولة مبارك الأمنيّة، ومع توجيه الإعلام الرسمي وتحريضه ضدّ كلّ ما يتعلّق بـ 2011 كحدثٍ تاريخي، تحوّلت وسط البلد في الإعلام والسينما إلى مصدرٍ للسخرية من الشباب أو النشطاء السياسيين، وتحوّلت شخصية الناشط/ة في السينما والدراما، من الاحتفاء إلى الوصم بأنهم عاطلون عن العمل ومُستغِلّون، وصماً وصل حدّ تجريمهم ووصفهم بالمخرّبين والعملاء، وبالأخصّ بعد عام 2013 والذي شهد احتكار الرئيس السيسي للحكم.

امتدّ تشويه وتجريم كلّ ما له علاقة بالثورة، ليشمل هجماتٍ أمنيةً متكرّرةً على منازل وشقق وسط البلد، خاصّة التي يستأجرها شباب وشابات دون أُسَرٍ، وهو دور مارسته الشرطة من قبل 2011. ودخلت منطقة وسط البلد حيّز إعادة إنتاج سرديّة الثورة، أو مسحها نهائيّاً من الذاكرة، فمثلاً: الجرافيتي الذي رسمه عدد من الفنانين/ات والمجموعات على مباني وسط البلد تأريخاً للثورة، تمّ مسحه بالكامل، كذلك تمَّ هدم مبنى الحزب الوطني في ميدان التحرير والذي حرقه "الثوار"، لمحو أي أثرٍ للثورة.


عُرفت منطقة وسط البلد بأنها مركز تلاقي الشعراء والكُتّاب والمثقّفين، والساسة، وكان لموقعها الجغرافي أثره في أهميتها السياسيّة، فشهدت تظاهرات أكثر لحظات التاريخ المصري تحوّلاً، بدايةً من الصراع مع الاحتلال البريطاني، مروراً بثورة يوليو وحتى ثورة 25 يناير.

امتدّ تشويه وتجريم كلّ ما له علاقة بالثورة، ليشمل هجماتٍ أمنيةً متكرّرةً على منازل وشقق وسط البلد، خاصّة التي يستأجرها شباب وشابات دون أُسَرٍ، وهو دور مارسته الشرطة من قبل 2011. ودخلت منطقة وسط البلد حيّز إعادة إنتاج سرديّة الثورة، أو مسحها نهائيّاً من الذاكرة.

بعد 2011 ومع موجةٍ عاليةٍ من الوافدين الجدد على جماعات وسط البلد، لم يكن الجميع مُرحباً به. فالروّاد القُدامى كان لهم النصيب الأكبر من الامتيازات، مقابل وافدين جدد عليهم دائماً إثبات أنهم جديرون بالاعتراف بهم ضمن تلك التجمّعات والتيارات.

لماذا الهجوم؟

وكما كان للمشهد السياسي أثره في تشويه ووصم روّاد وسط البلد، فقد ساهم أشخاص ومجموعات منهم في هذا التشويه، بممارسات عدّة، فلا يمكننا التعامل مع وسط البلد كما لو أنها تمثل تياراً واحداً، ومجموعةً واحدة، واتجاهاً فكريّاً واحداً، ولكن عادة ما تكون مثل هذه المجتمعات نخبويّة ومتعالية بسبب تراكم رأس المال الثقافي والاجتماعي الذي تكتسبه بمرور الوقت. فتلك التجمّعات أو الجماعات على تنوّعها، ليست منزّهة، وفي بعض الأوقات، يُعيد البشر إنتاج المنظومات التي همّشتهم، ويمارسون تهميش غيرهم، وفي أكثر التجمّعات ثوريّةً وتقدميّةً، نجد أشدّ الأفكار تناقضاً.

فبعد 2011 ومع موجةٍ عاليةٍ من الوافدين الجدد على جماعات وسط البلد، لم يكن الجميع مُرحباً به. فالروّاد القُدامى كان لهم النصيب الأكبر من الامتيازات، مقابل وافدين جدد عليهم دائماً إثبات أنهم جديرون بالاعتراف بهم ضمن تلك التجمّعات والتيارات. هناك شهادات عديدة عن وقائع إقصاء لوافدين جُدد، أو محاولات للتأثير عليهم وابتزازهم بقيم التحرّر، وبالأخصّ الشابات اللواتي تمّ إقصائهن وصمهن بالتخلّف والرجعيّة لأنهن لا يمارسن الجنس، أو لا يشربن الكحول، كما أن اللواتي يمارسن الجنس ويشربن الكحول، لم يسلمن من الوصم، كمتحرّرات "زيادة عن اللازم".

كما هجر عدد من الروّاد القُدامى وسط البلد تماماً، ووصفوها بأنها "لمّت"، وهو مصطلح مصري يُستخدم عندما يتمّ اختراق جماعة ما من قبل أشخاص لا ينتمون إليها.

يُقاس الاعتراف بالأشخاص كجزءٍ من جماعة ما، بمدى قدرتهم على التفاني لأجلها، بمدى قابليتهم في تقديم أثمان لهذا الانضمام، وأثمان أخرى إن قرّروا عدم الانضمام من الأصل، وكأن هناك كوداً تحدّده كلّ جماعة عن المقبولين والمنبوذين، ترسم من خلاله كيف يستقبل الجميع س أو ص، كيف يستحسنون أفعالهم وأقوالهم، أو كيف ينبذوهم كغير مُنتمين.

هاشتاج: #وسط_البلد

بدأ هاشتاج #وسط_البلد بمجموعة ساخرة من جمل الكليشيه التي يردّدها روّاد وسط البلد، تحتوي أغلبها على جُملٍ عربيّةٍ فُصحى يتمّ استخدامها للتدليل على أن المتحدّث على قدرٍ عالٍ من الثقافة والمعرفة، فاللغة هي وسيلة البشر في تكوين ذواتهم وكيفية التعبير عنها.


أضاف بعض المٌغرّدين والمُغرّدات لمساتهم في الهاشتاج، فبدأوا يغرّدون عن الممارسات التي شهدوها من أشخاص/جماعات تعرّفوا إليهم في وسط البلد، منها الإقصائيّة والابتزاز واستغلال الامتيازات، ومع انتشار الهاشتاج، بدأ آخرون في وصم روّاد وسط البلد أخلاقيّاً واجتماعيّاً، فمنهم مَن انتقد شرب الكحول، أو ممارسة الجنس دون زواج، وحتى تعدّد العلاقات الجنسيّة، واختلاف الميول الجنسيّة والهويات الجندريّة، والاعتقادات الدينيّة، كما أن هناك من وصفهم بالبطالة والفشل، وبأن ارتيادهم وسط البلد هو وسيلتهم للهروب من وصمهم بالبطالة، إلى اعتبار البطالة نفسها فعل تمرّد ضدّ منظومة رأس المال، ورغم أن رفض العمل هو أمر مُتعارف عليه في الأدبيات الماركسيّة، إلا أن الوصم كان نابعاً من مبدأ ليبرالي: إن الإنسان يستلهم قيمته فقط من خلال العمل، فبدا الأمر كأنه فرصة للانقضاض على ما تمثّله منطقة وسط البلد ثقافيّاً واجتماعيّاً، وهو الأمر الذي لن يبعد كثيراً عن السياق السياسي.

بدأ آخرون في وصم روّاد وسط البلد أخلاقيّاً واجتماعيّاً، فمنهم مَن انتقد شرب الكحول، أو ممارسة الجنس دون زواج، وحتى تعدّد العلاقات الجنسيّة

تحوّل المشهد إلى شجارٍ بين فريق المدافعين: الذي يرى في وسط البلد رمزيّةً ثقافيّةً كبرى، وبأن من شوّهوها لا "ينتمون" فعليّاً لها، وبين فريق الساخرين: الذي يرى أن السخرية سواء من عبارات الكليشيه أو الممارسات الفرديّة والجماعيّة لروّاد منطقة وسط البلد، هو حقّ أصيل لهم باعتبارهم/ن عايشوا/ن تلك الممارسات، فيما اتفق الفريقان ضمنيّاً على أن الوصم الأخلاقي الذي يشنّه مغرّدون محافظون، غير مقبول في كل الحالات.


هناك أشخاص عبّروا عن خوفهم من تكرار هجماتٍ أمنيّةٍ موسّعة على شقق ومقاهي وسط البلد، وهي آلية غالباً ما تستخدمها الدولة لتقدّم نفسها كحاميةٍ للأخلاق والفضيلة في المجتمع.

جدير بالذكر – مرّة أخرى- أن وسط البلد ليست كتلةً واحدةً من الأشخاص، كما أن اعتبار جميع روّادها ملحدين، مثليي الجنس، مُعارضين سياسيين، مُتحرّرين/مُتحررات، أو قصرهم على هذه التصنيفات أو غيرها، هو أمر بعيد تماماً عن الواقع الذي شهد تعدديّة روّاد وسط البلد، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الآن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard