شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في رمضان: حتّى حيطان بيوت مخيّم اللاجئين ترتدي حلّةً جديدة

في رمضان: حتّى حيطان بيوت مخيّم اللاجئين ترتدي حلّةً جديدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 13 مايو 201904:55 م

في هذا العالم الكبير، ثمّة مكان صغير المساحة لكنّه يتسّع لكل الناس، طرقاته ضيّقة لكن قلبه واسع، أناسه متنوّعون لا ينتمون إلى أصولٍ واحدة، لكنّ ظروفاً وأحداثاً متشابهة بينهم جعلتهم يسكنون هذه البقعة من الأرض. الأبواب أكثر ما يلفت انتباهي هنا، الكثير منها في كلّ زاروب تدخله، البيوت المتراصّة بجانب بعضها البعض جعلت هذه الأبواب متلاصقةً. تمشي بداخل المخيم كأنك دخلت مدينة الألف باب.

وراء كلّ بابٍ حكاية أناسٍ هُجّروا من مكان ما، أو لجأوا إلى هُنا ليجدوا مكانا آمناً بعيداً عن الحرب.

وراء كلّ بابٍ حكاية أناسٍ هُجّروا من مكان ما، أو لجأوا إلى هُنا ليجدوا مكانا آمناً بعيداً عن الحرب.

مهلاً، المكان ليس آمناً كما ظنّه الكثيرون منهم، لكنّهم مجبرون على الإقامة فيه وتحمّل ظروف المعيشة القاسية، من دون أن يجدوا مكاناً آخر ليذهبوا إليه.

في المخيّم، حكايات الناس لا تنتهي، دائماً هناك شيء جديد تستطيع الحديث عنه.

بعد سنتين من وجودي هنا، فشلت بأن أحفظ جميع الزواريب التي تتشابك فلا تعلم من أين دخلت ولا كيف يمكنك أن تُكمل سيرك. قرّرت فجأة أن ألتمس شعور الضياع داخل هذه الزواريب، أن أخرج من منطقة الأمان التي أعرفها، والتي تتمثّل في ثلاثة أو أربعة طرقٍ توصلني إلى بيتي، وأن أكتشف طرقاً جديدة لم أمرّ بها يوماً.

كنت خائفة أن أجد نفسي في منطقةٍ لا أعرفها، لكن كان عليّ أن أزور حيّ الغابسة، أن أتعرّف على جورة التراشحة، أن أسير نحو ساحة جيش التحرير وأصل إلى رابطة شعب، قريتي التي أحسست بشعور الأمان عندما قرأت اسمها، وكأنّني خرجت من زواريب المخيم ووصلت إلى فلسطين ودخلت إليها.

لطالما طرحت أسئلة هنا لا أعرف لها جواباً، تمنيت لو أن الله يتدخّل في ثانيةٍ ما ويشبع فضولي عن الناس وعن كلّ هذا الاختلاف، يجيبني عن أسئلتي التي تتعلّق بكلّ الأسباب التي أدت لأن يكون المخيم مكاناً حزيناً لكنّه متمسّك بالحياة. لماذا كُتب على الناس أن يهربوا من ويلات الحرب إلى بؤس اللجوء وسوء المعيشة؟

المخيّم جميل

يمكنني أن أسرد كثيراً في كلامي هنا، لكنّني لا أريد أن أنقل هذه المرة وجعاً يعيشه الناس، لا أريد اليوم أن أذكر الهموم والمشاكل التي يعاني منها جميع من سكن هذا الجزء الصغير من اليابسة على الأراضي اللبنانيّة، أريد فقط أن أعرّفكم على المخيم بشكله الجميل وهو يحتفل بقدوم زائر.

قبل آذان المغرب والجميع منشغل في عمله، أخرج من باب بيتي لأضيع مرّة أخرى، لكن هذه المرّة أريد أن أضيع بكامل إرادتي، لأرى الناس كيف تحتفل بشهر رمضان.

الحارة في هذه الأيام تبدو جميلةً ومزينّة، الأولاد يلعبون في الساحة، يرمون ريشة مضرب الهواء بين يمين وشمال، جميعهم مجتمعون يريدون أن يمرّ الوقت سريعاً. قلبي كان معهم يذهب يميناً وشمالاً، يتطاير كما الريشة في الهواء، أستذكر طفولتي في هذا المكان، والألعاب التي كنا نخترعها سوياً كي نلهي أنفسنا عن أي شيء. من بعيد، يأتي صوت جارتنا الطاعنة في السن تصرخ عالياً أن يخفض الأطفال أصواتهم، وأن يذهبوا بعيداً للعب.

في المخيّم، حكايات الناس لا تنتهي، دائماً هناك شيء جديد تستطيع الحديث عنه.

في آخر الزاروب نسوة الحارة يجلسن سويةً، جميعهن منشغلات في تحضير أغراض الفتّوش، يتحدّثن بصوت عالٍ ويضحكن كثيراً، هن أيضاً يردن أن يمضي الوقت كي تنتهي مهمّتهن في إعداد الطعام وغسل الأطباق.

في رمضان، حتى حيطان البيوت في المخيّم ترتدي حلّةً جديدة، مكبّرات الصوت التي بالكاد كنا نسمع الآذان منها، يصبح صوتها عالياً وواضحاً. الناس لا تستطيع أن تترك المسجد، ترى بيوت الله دائماً بداخلها شباب وصغار ورجال مسنّون. باب جامع فلسطين لا يقفل، وكثيراً ما ترى التمر والمياه تنقل إلى داخل المسجد عن روح ميت.

في رمضان، حتى حيطان البيوت في المخيّم ترتدي حلّةً جديدة، مكبّرات الصوت التي بالكاد كنا نسمع الآذان منها، يصبح صوتها عالياً وواضحاً. 

لا أنكر أن رمضان قد اختلف قليلاً عن قبل، أذكر أنه لم يكن يمضي نهار واحد من دون أن نسكب الطعام للجيران، لا تزال هذه العادة موجودة إلا أنّها قلّت عما كانت عليه، اليوم، أصبح الناس أكثر انشغالاً، الوقت يمرّ دون أن نشعر به.

لا ينام المخيم شهراً، الزواريب تصبح أكثر أمناً حتى بعد منتصف الليل، الأبواب لا تُغلق في وجه أحد، حتى المساجد ترحّب بجميع من يأتي ليناجي الله في كلّ وقت.

لا ينام المخيّم شهراً

لا أنكر أن رمضان قد اختلف قليلاً عن قبل، أذكر أنه لم يكن يمضي نهار واحد من دون أن نسكب الطعام للجيران، لا تزال هذه العادة موجودة إلا أنّها قلّت عما كانت عليه، اليوم، أصبح الناس أكثر انشغالاً، الوقت يمرّ دون أن نشعر به، لذا فالناس هنا تحاول أن تستغلّ هذا الشهر المبارك في العبادات والجَمْعَات اللطيفة بعد الإفطار أو عند السحور.

الشارع مزدحم قبل آذان المغرب، الكلّ يركض في جميع الاتجاهات كي يحضر ما يريد، في كلّ ساحة واسعة قليلاً داخل المخيّم تجد أحد أبناء الحارة يعصر الليمون ليبيعه، أو أطفالاً صغاراً آثروا أن يستغلّوا هذا الشهر في بيع الخبز المخصّص للسحور، كي يجاهدوا بطريقتهم الخاصة ويعينوا أهلهم.

رمضان هنا شهرٌ يدعوك لتحبّ الله، وتنسى كلّ ما تعانيه

نجلس على مائدة الإفطار، على رأس الطاولة جدّي، هذا الرجل الثمانينيّ الذي يرفض أن يمرّ عليه رمضان من دون أن يصومه. يهدأ المخيم في هذا الوقت، لا صوت في الخارج غير أصوات الملاعق والصحون التي بالطبع تسمعها من بيوت الجيران، لأن الشبابيك لا تخفي سرّاً هنا.

لا ينام المخيم شهراً، الزواريب تصبح أكثر أمناً حتى بعد منتصف الليل، الأبواب لا تُغلق في وجه أحد، حتى المساجد ترحّب بجميع من يأتي ليناجي الله في كلّ وقت.

رمضان هنا شهرٌ يدعوك لتحبّ الله، وتنسى كلّ ما تعانيه، وتتذكّر حكمته في كلّ شيء، ورحمته على الناس جميعاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard