شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
المقدّس المُشتهى (I): صورة العذراء

المقدّس المُشتهى (I): صورة العذراء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 12 مايو 201902:07 م

لعدّة عقود تمّ استثمار صورة العذراء وابنها من قبل صنّاع المجد الاستهلاكي وأيضاً من قبل الكنيسة، لإنشاء مفاهيم سيطرت على المخيلة الأوربيّة، تتعلّق بصورة المرأة ووظيفتها، علاقتها بالذكر الجالس في حضنها كما علاقتها بالذكر الجالس في الحافلة.

وتبدّلت تلك الصورة مراراً ولا تزال تتبدّل، لدرجة أن خبراء الظهورات البشريّة يعدّون أكثر من 21000 ظهورٍ للسيّدة العذراء في العالم منذ عام 1000 م، لكن الكنيسة لا تعترف إلّا بحوالي 15 منها، وتُفسِّر الظهورات الأخرى غالباً بأنها هلوسات مؤمنين "مأخوذين" بالقداسة أو أنها، ببساطة، من عمل الشيطان.

وتضع الكنيسة الكاثوليكيّة العديد من القواعد الصارمة التي تمكّن الرائي أو المتخيّل من التأكّد، إن كان ما رآه هو فعلاً السيّدة العذراء أم هو مجرّد عشاءٍ دسمٍ وبضع كؤوسٍ إضافيّةٍ من النبيذ.

لكن ما الذي يجعل الرائي يظنّ أن من يشاهدها هي فعلاً مريم العذراء؟ من صنع تلك الصورة المعروفة لوالدة الله وكيف تغيّرت تلك الصورة؟

الصورة الأكثر قرباً

"هل يمكن ملاحظة الأنوثة في جسد المرأة التي ترونها؟ طبعاً، يمكن ملاحظة الأنوثة، ولكن لا شيء مُحَدَّد.": من كتاب "مئات المُقابلات مع العذراء القديسة مريم" وهو عبارة عن مقابلات مع الأشخاص الذين شاهدوا العذراء في أوقاتٍ مختلفةٍ من حياتهم وتحدثوا عن شكلها ومواصفاتها الجسديّة

قام الأب يانكو بوبالو، وهو كاتب يهتمّ برؤى السيّدة العذراء وله كتاب "مئات المُقابلات مع العذراء القديسة مريم في مديوغوريه 1985"، بمساءلة الأشخاص الذين شاهدوا العذراء في أوقاتٍ مختلفةٍ من حياتهم عن شكلها ومواصفاتها الجسديّة، وقام بنشر هذه الأسئلة والاجابات عليها في عام 1992:

- أخبروني: كم طول السيّدة التي ترونها بانتظام؟

= حوالي 165سم.

كم تَظُنّون أنّها تَزِن تقريباً؟

= حوالي 60 كيلو، عمرها بين الـ 18 والـ 20 سنة.

- لون وجهها؟

= عادي، بيضاء إلى حدٍّ ما، خدود زهريّة.

- كيف تبدو شفتاها، سميكة أم رفيعة؟

= عاديّة، جميلة، هي رفيعة نوعاً ما، لونها أحمر.

- ما لون عيونها؟

= عيونها رائعة، أزرق فاتح بصراحة، كبيرتان لحدّ ما.

- سيّدتنا لديها أنف، كيف شكله: مُرَوَّس أم …؟

= أنف جميل، أنف صغير، طبيعي، مُتناسق مع وجهها.

وحواجبها رفيعة، عاديّة، أكثر سواداً.

- هل يمكن ملاحظة الأنوثة في جسد المرأة التي ترونها؟

= طبعاً، يمكن ملاحظة الأنوثة، ولكن لا شيء مُحَدَّد.

- هل تبدو أظافرها مرئيّة؟

= هي مرئيّة بشكلٍ جزئي.

- كيف هي، ما لونها؟

= لونها طبيعي، أظافر مقصوصة نظيفة.

- هل رأيتُم ساقيها مرّةً؟

= لا، أبداً، فُستانها يُغَطيهما دائماً.

حسناً، لجميع المؤمنين الحقّ بأن يتصوّروا الأنبياء والقدّيسين بالطريقة التي تلائم معرفتهم بالجمال والصحّة والطهارة، دون كثير اكتراثٍ بالحقائق التاريخيّة، طالما أنها، أي الحقائق، مختلف عليها لدرجة لا تسمح بأي تمحيص علمي.

فالفيلم الذي أنتجه المخرج جيمس كاميرون وبثّته قناة ديسكوفري في 2007، يحوي أدلةً دامغةً على اكتشاف قبر يسوع وزوجته المجدليّة كذلك ابن يدعى يهوذا ووالدته العذراء نفسها، لكن المنظّمات المسيحيّة الأميركيّة رفضت حتى مجرّد البحث في الأمر بل وهاجمت الفيلم.

السيدة العذراء والقديس يوحنا، قطعة من ألمانيا في القرن الخامس عشر (من مقتنيات متحف ج. بول غيتي في لوس أنجلس)

يخطئ من يزعم باسم الدين أنّ الرغبة حالة يجب السيطرة عليها وإخضاعها، فهي تدخل في كل تفاصيل الحياة، حتى أكثرها قدسية، كصورة الآله والأنبياء وعلاقتنا مع المقدس.

هل يحقّ لجميع المؤمنين أن يتصوّروا الأنبياء والقدّيسين بالطريقة التي تلائم معرفتهم بالجمال؟
انتشر مؤخراً خبر توقيف مواطنة بولندية بسبب ملصقات للسيدة العذراء وليسوع المسيح بهالات ملوّنة حول رأسيهما بألوان قوس قزح، هذه القصة، مع أنها قوبلت بعنف من السلطات، ما هي إلا حالة جديدة من سلسلة طويلة تعرضت فيها صورة العذراء للتغيير المستمر

لكنه يسوع العالم، وهي والدته، وللجميع الحقّ في خلط التهيؤات المناسبة، فتارة نرى يسوع افريقيّاً ببشرةٍ سمراء وشفاهٍ غليظةٍ وشعرٍ أجعد، كما نرى عذراء بعينين آسيويتين مائلتين وبشرةٍ تقارب الصفار، ذلك أنه لم يرد أي وصفٍ له في الإنجيل، كما لا يوجد هيكل عظمي معروف لتُجري عليها اختبارات حمض نووي، فتُرك الأمر لخيال الفنّانين وتخيّلات المؤمنين فقط.

صورة العذراء المتقلّبة

تظهر العذراء في الرسوم الأولى المعروفة لها، بحمرة قليلة على الوجنات، مثل الصورة الموجودة في متحف الوطني اللبناني صور والتي يرجع تاريخها إلى عام 440 في الحقبة البيزنطية حسب ما تقول أمينة المتحف آن ماري عفيش، والتي يمكن اعتبارها، إذا صحّ التاريخ، أوّل صورةٍ معروفة للسيّدة العذراء.

The Betrothal of the Virgin Mary by Raphael

وينسب أيضاً لـ"القديس لوقا" أوّل رسومات السيدة العذراء كونه كان طبيباً ورساماً وشديد القرب منها، وتظهر السيدة العذراء في تلك الرسوم المتقدّمة كامرأةٍ سمراء إلى حدٍّ ما، رغم أن الأمر يُعزى غالباً لتأثير الزمن على اللوحات والتماثيل المعروفة عنها، وأكاسيد الرصاص في الألوان التي تمّ استخدامها، لكن من المنطقي ألا تكون بيضاء تماماً كونها ابنة الناصرة في فلسطين أو على الأقل لا تتطابق مع الصورة الأوربيّة المعروفة عنها، كونها أيضاً تستعير من الخصائص المميّزة للآلهة الأم القديمة في العصور القديمة: إيزيس المصريّة وأرتميس اليونانيّة، أو في العبادة الشرقية للعذارى وإلهة الخصوبة.

جعل فنانو أوروبا، مثل بوتشيللي، العذراء تبدوا مثيرة ليجذبوا الناس إلى المعتقدات الأخلاقية للدين المسيحي. بمعنى آخر الجاذبية والرغبة، على عكس استثمارهما الاستهلاكي للترويج للسجائر والسفر والفودكا، في هذا السياق، وظّفت لخدمة الأخلاق. 

وبالعودة إلى الرؤى السابقة للشهود المخطوفين بصورة العذراء، نلاحظ كمّ الانخطاف والمثالية "الاستهلاكيّة" التي تسيطر على تهيّؤاتهم، من دقّة التفاصيل الجسديّة: الأنف المستقيم والحواجب الدقيقة، الأظافر المنحوتة والشفاه الحمراء إضافة إلى اللون الأبيض والعينين الزرقاوين، الطول والوزن والعمر المثالي، وهي صورة مثالية للغاية، توافق الهوى الأوروبي لصورة امرأة مشتهاة ومرغوبة جنسّياً، أكثر من كونها والدة معذّبة توشك أن تفقد ابنها في واحدة من أعظم المآسي التراجيديّة في التاريخ.

وفي هذا يقول الكاتب السويسري ألان دي بوتون : أحيانا تبدو السيدة العذراء مثيرة (بأرقى وأبهى حالة)، ويشرح: بأن الفنانين المسيحيّين، في لحظات محدّدة، اقتنعوا بأن الجاذبية الجنسية يمكنها أن تحمل ترويجاً لمشروع التنوير، فإذا كان الهدف أن نؤمن بأن العذراء هي أنبل من جميع البشر، لم يجد الفنانون ضيراً من تقديمها على أنها الأكثر إثارة أيضاً.

ففنانون مثل بوتشيللي جعلوا العذراء تبدوا مثيرة ليجذبوا الناس إلى المعتقدات الأخلاقية للدين المسيحي. بمعنى آخر الجاذبية والرغبة، على عكس استثمارهما الاستهلاكي للترويج للسجائر والسفر والفودكا، في هذا السياق، وظّفت لخدمة الأخلاق. 

الصورة الحديثة

جاء في خبر عن "سي ان ان" (CNN) أنه تمّ إلقاء القبض في بولندا على سيدة تدعى إليبتا بودلسنا بعد أن قامت بوضع ملصقات للسيدة العذراء وليسوع المسيح بهالات ملوّنة حول رأسيهما بألوان قوس قزح وتواجه تهماً بالسجن قد تصلل سنتين جرّاء ذلك. 

لم تكن صورة مريم والطفل حتى أواخر القرن الثامن عشر، الصورة المثال عن الأمومة والعطف ولكن بتأثير الكتّاب أصبح حنان الأم موضوعاً لصورة العذراء بحدّ ذاتها، حيث يمثّل تمجيداً لشعور المرأة وتعبيراً عن العاطفة التي تربطها بابنها، إضافةً لموضوع الفضيلة المطلقة والسعادة والفرح على الأرض، وساهمت الفنون الحديثة في القرن العشرين، من مدارس فنيّة مختلفة إلى فنون الفيديو والتجهيز والبوب آرت بإنشاء رابطٍ جديدٍ بين صورة المرأة/ الرمز والمرأة الحاضرة في اليومي، وظهرت الأيقونات الحديثة التي تتناول صورة العذراء الجديدة، خصوصاً وأنها تنسجم مع ظاهرة "الأمهات العزباوات" التي انتشرت بتأثير الثورة الجنسيّة وثورة الحقوق، كما في أعمال الفنانة النمساوية الأصل فالي ايكسبورت مثلاً، والتي ترفض الربط في أفلامها بين حضورها الشخصي، كأيقونة شخصيّة/نسويّة مماثلة لحضور العذراء، وبين الأمومة كوظيفةٍ نهائيةٍ ووحيدةٍ للمرأة.

وهذا معارض لحدٍّ ما للصور التي تُظهرها برفقة ابنها يسوع، إذ تظهرها كشخصٍ بلا جنس، تتطابق صورتها بصعوبة مع جنسها الأنثوي، وهذا ما يتفق مع النظرة الدينيّة الخالية من الدَنَس بمعناه الجنسي المفصّل (لنعد إلى الإجابة حول "أنوثتها" من قبل الرائين)، ولولا وجود الطفل يسوع في بعض الصور في حضنها لما عرفنا أنهما ولد ووالدته، إذ يأتي يسوع هنا ليصحّح خطأ "الجنس"، ليعيد تصويب جنس والدته، فبالرغم من أنه هي من ولدته وأعطته الحياة إلا أن هذا كلّه بتدبيرٍ ارتجاعي منه، فهو من خلقها وهو من منحها فرصة أن تكون أنثى، ولولا وجوده في حضنها لكانت "لا شيء محدد".

الاحتفاليّات بالصورة

تحوّلت أماكن ظهورات السيّدة العذراء، مع انتشار الخبر إلى أماكن مقدّسة أو شبه مقدّسة، أماكن للسياحة الدينيّة يتمّ دعمها بالمال والإعلام لأجل ترويجها أكثر فأكثر، في مفهوم يقارب مفهوم الدين السياحي، ويتمّ وضع تمثالٍ أو صورةٍ مكان الظهور المفترض، فيتراكض الناس لمشاهدة ما حدث على أمل أن يحدث مجدداً.

يرصد كتاب لـمارتن ألبرت لوركا بعنوان "معجزة العذراء" طقوس تغيير ملابس تماثيل السيدة العذراء في الأبرشيات المختلفة، ويتحدّث مع النساء اللواتي يقمن بهذه المهمّة، ويوضّح أنه في الماضي كانت النساء المسنّات الأكثر احتراماً هنّ الوحيدات المخوّلات القيام بهذا، في استبعادٍ كلّي للذكور، وكنّ يبدلن أحياناً الثياب وألوانها، فتروج أساطير مختلفة عن معجزات تحصل ليلاً في الكنيسة.

وتردّ إحدى النساء على سؤال من المخبر الذي أرسله المؤلف: كيف تواجهين حقيقة أنها تمثال فحسب، تجيب المرأة: إنها ليست كذلك، وتجيب أخرى: بينما كنا ننزع القميص عنها أدركنا، عن طريق اللمس، أنها مجوّفة، لكننا صرنا نفعل هذا دون أن ننظر إليها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard