شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن رجال مُفرطين في رجولتهم... ساخرين من

عن رجال مُفرطين في رجولتهم... ساخرين من "النعانيع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 6 مايو 201908:20 م

نتعلّم أن نكون رجالاً حين نراقب بجديّةٍ أو بمرحٍ "رجالاً" يمارسون "أنشطتهم" و"أعمالهم"، نقلّدهم ونقتبس منهم. هم يؤدّون علناً مهارات نتبناها تلقائيّاً، وندافع عن حقّنا بها، نحتكر مهناً أو أنشطةً أو حتى أشكالاً، دون أي مبرّر سوى أنها لـ"الرجال".

الأهم، أن هنّاك روّاداً في استعراض الرجولة ومهاراتها، وإبراز شكلها المتقن أو الفائق.

أولئك الروّاد/ النماذج يستخدمون مهارات قد لا نحتاجها، لكنها تأسرنا، سواء وظفوها في مساحات اللعب المتقن أو العمل الماهر، هم المسؤولون عن تكوين وعي "الرجال" بأنفسهم ووعي الآخرين بهم، لبناء أدوارهم المعترف بها.

هناك مساحات استعراضية للـ"رجال"، أشبه بمدارس متاحة للجميع، لكنها ذات برامج مصمّمة بدقة لنتعلّم منها بشكلٍ غير مباشر قواعد الرجولة وأحلامها وخصائصها السياديّة السامّة، هي شيفرات ثقافيّة نحملها فوق جلدنا لا تحته، نفسّر عبرها العالم ونتحرك ضمنه.

هذه الرجولة تقدم "نماذج" مثاليّة، يجري ترسيخها وتداولها لنرى أنفسنا أمام أيقونات لـ"رجال"، ذوي خصائص جسديّة وعاطفيّة تُصدَّر لجموع "المتعلّمين" من "الرجال المبتدئين".

هذه النماذج تتجلى على جرّتين يونانيتين، كتلك التي نراها في أفلام الكرتون كما في فيلم "هرقل" أو في أحد المتاحف الأوروبيّة، كلّ واحدة منهما تصوّر جسداً مثاليّاً، منحوتَ اللحم، حافلاً بالعضلات.

الأولى عليها صورة هرقل، الرياضي الماهر في الملعب، فائق الخصائص الجسديّة، المندفع نحو المجد والنصر، والأخرى تُصوّر هايفيستوس، الحدّاد صانع العالم وأدواته، الذي يعمّر ويبني ولا نراه إلا في ورشته، يصنع أدوات البناء أو يشارك فيها.

الملعب: معايير المهارة المتخيّلة

تحضر أيقونة هرقل الآن في رجال ورياضات رجوليّة يُروّج لها في كلّ مكان، وصناعات إعلاميّة وإعلانيّة واختبارات طبيّة، في سبيل الأفضل والمهيمن.

تصنع الأحداث الرياضيّة الرجوليّة لتكون الأكثر مشاهدة في العالم، ونحن الجمهورٍ نشاهد ونتعلّم ونستهلك، نحاول أن نقلّد تسريحات الشعر، وكيف نقفز فرحاً بالانتصار، وكيف نعبّر عن غضبنا، والأهمّ، في الرياضات الأشدّ عنفاً، نتعلّم كيف يُباح الشجار ضمن مساحة اللعب، كما في الهوكي، وسطوة القوّة الجسديّة والاحتكاك العنيف من أجل "الانتصار" في كرة القدم الأمريكيّة.

هذه المعايير التي تتسلّل ضمن زمن الترفيه، ترتبط بالرياضة كمساحةٍ ذات قواعدٍ منفصلةٍ عن الحياة اليوميّة. يتبنّاها "اللاعبون" ليتميّزوا عن الآخرين من جهة، ولاستعراض مهاراتهم الجسديّة من جهة أخرى.

لكن ما يثير الاهتمام، أننا كمشاهدين "رجال" لا نتبنّى كلّ ما نراه، بل نتبنى الهالة المحيطة باللاعب الرياضي، نقتبس أجزاء منها بوعي أو غير وعي، خصوصاً أن الرياضة ومساحة الملعب تخاطبان فينا مفاهيم المجد والانتصار القائمين على المهارة والإتقان، وإنجاز "الوظيفة" بصورةٍ مثاليّةٍ لا يمكن لأي أحد آخر أن ينجزها.

هناك متعة إيحائيّة في مشاهدة الرياضة، وتلقي النشاط الجسدي واللقطات المؤثّرة، والسعي لمقاربة هذه المهارة وهالتها، فالمهارة الرياضيّة لا تطبيق لها في الحياة اليوميّة، لكن ما يبقى هو الهالة، والشرعيّة السريّة التي يمتلكها الرياضي التي تجعل من يقلّده يظنُّ أنه تفوّق على أقرانه، ويتقمص شخصية"كوتش" (مدرّب)، يختلف عن "العاديين" أو " أصحاب المهارات المتواضعة" الذين لا يتفرّغون كليّاً لتمرين ماكينتهم/ جسدهم.

يُباح للكوتش القسوة والتعامل العنيف في بعض الأحيان لأنه "رياضي"، ذو "دمٍ حامٍ"، انفعاليّ، قد يضرب أو يقتل حتى. هالته تبرّر له سُمّيَّته، ومن يتشرّب من هالة المجد الرياضي، يتشرّب أيضاً خصائصها السامّة التي تظهر أوقات الجدّ واللارياضة.

كأنه الناجي الأخير

الروح الرياضيّة التي يتلاشى إثرها العنفُ في سبيل اللعبة غير موجودة في الحياة اليوميّة، فالسخرية المجّانيّة والإهانات ممنوعة على أرض الملعب كونها خارج المنافسة، لكنها حاضرة في الحياة اليومية لدى "الكوتش"، المترفع على العاديين، الماهر في الأداء، من يحمل قنينة الغاز بيد واحدة، ويسخر من "النعانيع"، من يأمرك فجأة بأن تمارس تمارين الضغط، أو تتصارع معه قبل الغداء.

الأخطر أن تأثير المشاهدة ينعكس علينا، نحن الذين نقتبس من هذا الفضاء والعنف الذي يحويه، كنطحة زين الدين زيدان الشهيرة التي يتعلم منها "الكوتش" درساً ساماً: تحت الضغط يُباح العُنفُ، أو أَخْذُ "الحقّ" باليد. لأن مساحة الملعب توحي بأن المنافسة للوصول إلى الربح مرتبطة بالفعل الجسديّ نفسه، التي تخلق عنفاً مايكروياً حين ممارستها في الحياة اليوميّة، كليّ اليدّ والتهديد والضرب.

المُترفع على العاديين، الماهر في الأداء، من يحمل قنينة الغاز بيد واحدة، ويسخر من "النعانيع"... عن "مدارس تعليم الرجولة" وعن "خريجيها" من الرجال المفرطين في رجولتهم

ننظر إلى "الورشة" بوصفها مساحةً رجوليّةً بالمعنى التقليديّ... فالرجولة هنا تنعكس على العالم ومشكلاته، ويظهر "المُعلّم" مُترفّعاً عن الفئة الأقلّ امتيازاً، سواء جندرياً أو مهنياً

هالة الرياضي ترتبط بقدرته على تجاوز ذاته، وتحدّي قدرته الجسديّة، ما يجذب الرجل المتقمص لدور "الكوتش" لا إرادياً نحوه، ليظهر كمقلد ماهر يتوقّع أن مهارات الملعب لها ذات النتائج في الحياة اليوميّة فعلى النساء أن يركضن لتلمس جسد الرياضي، هو دائماً محطّ الإعجاب، هو أيضاً متنمّر، فظّ وسريع الغضب.

تخاطب الرياضة أيضاً مساحات المغامرة فينا، تُحاكي صورة الرجل الأوّل، المحارب، المكتشف، القادر على تجاوز البحار وتسلّق الجبال. الرجل الرياضي يمتاز بأنه يعكس حنيناً نحو الحرية في العالم و"القدرة" على احتلاله، نوستالجيا لزمن المهارة العضليّة والقدرة على النجاة من الخطر.

هو قادر على التكيّف وتخطّي الصعوبات "الحقيقيّة" التي يتمرّن عليها في الرياضة، فالألعاب التي تطلب قوّة، أشبه بتمرينٍ على خطر حقيقي كان موجوداً سابقاً، خطر ضدّ وحوش الأرض والأعداء، فالرياضي هو الناجي الأخير في المعركة القادمة مع أخطار العالم.

الورشة: فضاء العمل الجدّي

نعود للجرار اليونانيّة وهايفستوس، الحدّاد، الصانع، الذي يُكوّن الأدوات التي تشكّل العالم وتساعد الرجال على تكوينه.

هو إله الحديد والصلب ومطوِّعه لخدمته، يعمل ضمن فضاءٍ مسؤولٍ عن بناء العالم بالمعنى الحِرَفيّ: الورشة. وهي المساحة الملأى بالرجال -عادة- أولئك المسؤولين عن عمران المدن: "المُعلمين". 

ننظر إلى الورشة بوصفها مساحةً رجوليّةً بالمعنى التقليديّ، يشغلها عمّال وحرفيّون ومختصّون في المهن التي تحتاج قوّة جسديّة، وقدرة على تحريك المكوّنات الماديّة وتشكيلها لتكون ضمن تصميم ذي جدوى.

هي مساحة يُبذل فيها الجهد بناءً على مخطّطٍ معماريٍّ أو عملٍ بسيطٍ يمتلك "المعلّم" مهارة إنجازه، هذه الورشة تُحاط بـ"هيبة" من نوع خاص، تجذب المتفرّجين والفضوليين، مدّعي المعرفة وملوك الـmansplaining (مزيج من كلمتَيْ "Man" بمعنى رجل و"Explain" بمعنى يشرح، ومن تعريفاتها بأنها كلام الرجل إلى المرأة بطريقة تُظهر شعوره بالتفوق عليها)، وهي التي نتعلّم من مراقبتها أو مراقبة الصور عنها، جدوى وجودنا الأصلي في العالم كـ"رجال"، بنّائي هذا العالم ومصلحيه.

ترتبط الورشة بتقسيم العمل سواء كان هذا التقسيم مكانيّاً (داخل/ خارج) المنزل، أو طبقيّاً، وهي فضاء يُوظّف فيه "الجهد" و"الأبعاد" التي يحملها الجسد البشري من أجل تغيير هذا العالم. وهنا تبرز خاصيّتها الأشدّ تميّزاً : الخطر. العمل في الورشة يحوي تهديداً جسديّاً للعامل، سواء بتعامله مع المعدّات المختلفة أو على المدى الطويل بتأثير ما يتعرّض له من مواد كيماوية مختلفة.

صيغة الخطر هذه والرغبة بتحدّيه، تُحرّك فينا نحن المراقبين والمتلصّصين والمتسلّلين الرغبةَ بإصلاح العالم وما حولنا، هناك عطب ما، ولا بد من "اختبار مهاراتنا" أو "إثباتها" لإصلاحه، هذه الرغبة تبدأ مع التحدّي الشهير، ما الذي يعرفه "المعلم" في الورشة أكثر منيّ؟

الجواب عن هذا السؤال ينتهي عادة بالتخريب (ماس كهربائي) أو التعرّض للخطر (صدمة كهربائيّة)، هناك غواية في الهالة المحيطة بمن "يعمل بيديه" تهدّد الرجولة التقليديّة، لا بد من اقتباسها وتقليدها، كون الإحساس السابق بالتهديد يتجاوز الوعي الذاتيّ بالمهارة، ويفعّل التهوّر، لإثبات القدرة على "البناء" وإصلاح العطب في تكوين العالم الماديّ كي يعود وظيفيّاً وخدميّاً.

هذا المسرح العلنيّ الذي يمكن مشاهدته ويُمنع الدخول إليه، يشكّل امتيازاً ما للحاضرين ضمنه، وهالة تعكس تفوّق فئة على أخرى، لا بالمعنى الطبقيّ أو العنصري، لأن تفوّق شاغلي هذا الفضاء على من حولهم من مارّة، أخلاقيّ

بالعودة لمفهوم البناء، تعكس الورشة القدرة على ترك أثر في العالم، أثر ماديّ ملموس يستمرّ عبر الزمن. هذا الأثر الماديّ يغوي متقمص شخصية "المعلّم" لتقليده، كونه يختزن أيضاً خصائص متخيّلة تروّج أنه مثير "للنساء"، فتمثيلات العمّال في الورشة هي دائماً ذكوريّة مُفرطة، هم مفتولو العضلات، يخاطرون بالحركة على الرافعات و"السقالات"، يتأمّلون المارّة ويخضعون لتحديقهم.

هم النموذج التقليديّ للـ"مُعلم" مُغيّر العالم ووالد الأطفال وحامي المنزل وبانيه، القاسي في التعامل مع أقرانه ومع الآخرين خارج الورشة، وإثر الاستغلال الاقتصاديّ، هو دوماً مكسور الخاطر جهده لا يتطابق مع مردوده الماديّ، ما يُبرّر دوماً نزواته وعصبيّته في الفضاء الداخلي.

غواية الورشات

تُصوّر الورشة كمساحة للاستغلال، لكن أيضاً للأمل، كون نهاية العمل ترتبط برضا ما وإنجاز ماديّ واضح المعالم، ملموس، يغتفر إثره كل ما يتعرّض له "المعلم"، نتعلم منه تحمّل الاستغلال والقسوة والعنف، إذ لا بدّ من نهاية ما، و"مُنتج" يخلق الإحساس بالإنجاز.

غواية الورشات، وخصوصاً الكبرى منها، مرتبطة بالمدينة والصناعة". هذا المسرح العلنيّ ،الذي يمكن مشاهدته ويُمنع الدخول إليه، يشكّل امتيازاً ما للحاضرين ضمنه، وهالة تعكس تفوّق فئة على أخرى، لا بالمعنى الطبقيّ أو العنصري، لأن تفوّق شاغلي هذا الفضاء على من حولهم من مارّة أخلاقيّ، هم كـ"مُعلمين" الأكثر أثراً بيننا نحن المسرعين للمكاتب والمقاهي، هم الكتلة البشريّة المسؤولة حرفيّاً عن الأماكن التي نشغلها، الأبنية.

هذا التفوّق يُغوي الرجال الآخرين، ويُفعّل النزعة للتقليد رغم غياب المهارة، فنرى ملامح هذا التقليد في الفضاء الخاص أو فضاءات العمل حيث تتبنّى الرجولة هالة "المعلم" لحلّ المشكلات واستعراض هذا الحلّ، وتأنيب من يعجز عنه، خالقة النزاع الرجوليّ لإثبات القدرة على إصلاح أي عطب، سواء كان كرسيّاً مكسوراً أو حاسوباً بحاجة للإصلاح.

مثال بسيط على ذلك هو ادّعاء الكثيرين القدرة على إصلاح سيّارة من دون امتلاك دراية كاملة بذلك. صحيح هناك مهارات أوّليّة، لكن لا يوجد استسلام أو تسليم فوري بعدم المعرفة، أو كما في الـmansplaining يظهر الادّعاء بأن هناك معرفة رجوليّة دفينة، قادرة على شرح المشكلات لـ"المرأة" التي لا تتضح لديها الصورة كاملة تجاه أي مشكلة.

فالرجولة هنا تنعكس على العالم ومشكلاته، ويظهر "المعلّم" المُترفّع عن الفئة الأقلّ امتيازاً، سواء جندرياً أو مهنياً والمؤمن بتفوقه. "المعلّمون" مجاز يتمثّل ماديّاً بالرغبة في التفوّق الرجولي الذي تحرّكه السلطة السياسيّة والاقتصاديّة، في سبيل تحقيق السيادة على العالم وتكوينه لخدمة فئةٍ قليلةٍ، لا تعرف رائحة الطلاء أو التعب العضليّ.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard