شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"زرعوا فيكم الشُّعور بالذنب ليستغلُّوكم".. عندما تُصبح القُدرة على الفَرحة ثَورَة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 6 مايو 201910:42 ص

يربط رجال الدين السعادة بتقوى الله، أو تطبيق الشريعة، ويربطها الحكام المستبدون في الدول النامية بتطبيق القوانين، والتعايش، والصبر والتحمل، أو الرفاهية والاستمتاع الآمن بما أباحه القانون في الدول المتقدمة.

ويبدو أنَّ غير قليل من الإعلاميين والنشطاء والسياسيين المعارضين استثمروا في مشاعر الحزن والغضب حتى أصبحت الأخبار السياسية، والنشاط النسوي مرادف للغضب والأخبار السيئة، ولازمت الحالة الانتقادية لكلّ ما هو سيء الكثيرين.

في تدوينة لهند الإرياني، الكاتبة والناشطة اليمنية، ترصد حالة من اختلطت بهم من النشطاء، قالت لها إحداها "أنا مَيِّتة من الداخل"، وشرحَت أنَّها تُعاني من اكتئاب شديد يجعلها أحياناً غير قادرة على ترك السرير، وهو الشعور الذي شاركته فيها الكاتبة.

كتبت الإرياني: "كنتُ أيضا أشعر بالتعاسة عندما كنتُ أعمل في الصّحافة، وَأُتَابِع الأخبار السياسية بشكل يومي".

يظنّ النَّاس أنَّ هذه النَّاشطة سعيدة، سفر ومؤتمرات، ولكنَّها لا تشعر بالمتعة، وحالها، بحسب الإرياني، حال الكثير من النّشطاء السياسيين، الشعور بالكآبة والقلق والتوتُّر الدائم.

وهو أمر أيضاً ينطبق على حال السياسيين، يقول لها سياسي أنَّه ندم لاختياره هذا الطريق، فالسياسة فيها الكثير من الكذب والنفاق وتغيير المبادئ، وغالباً ما يكون السياسي مكروهاً من الناس.

"كنتُ أيضا أشعر بالتعاسة عندما كنت أعمل في الصحافة وأتابع الأخبار السياسية بشكل يومي".

يقول السياسي: "تمنيتُ لو كنتُ أُقدِّم للنَّاس فنَّاً جميلاً، لو كنتُ اهتميت بموهبتي في عزف العود لكنتُ الآن أستمتع بلحظات الحياة".

ويجادل المعارضون بأنّ التوتر والقلق يجعلنا فاعلين أكثر، ونشر السلبيات يدفعنا للتفاعل، أكثر من نشر الروح المرحة النشوانة بالحياة، وبمرور الوقت استثمرت الكثير من الكتابات الإبداعية سينمائيا وروائيا مشاعر الغضب، والاكتئاب، والتوتر باعتبارها دليل على فشل الأنظمة السياسية.

تُشبّه مارغريت ويرينبرج، طبيبة نفسية متخصصة في إدارة الاكتئاب والقلق، حديث الناس عن السياسة بكلام المكتئبين، في مقال لها على موقع "سايكولوجي توداي"كتبت: "يذهلني مدى تشابه هذه الأصوات مع أصوات المصابين بالاكتئاب التي أسمعها في عملي السريري".

الاكتئاب لا ينتمي إلى حزب ولكن له تأثير سلبي أياً كان انتماؤك، بحسب ويرينبرج، وفي المقابل تُغذِّي مشاعر الإحباط واليأس الاكتئاب، وبما أنَّ الموسم السياسي يعني نقاشاً سياسياً بلا توقّف، فلن تجد مكاناً للتخلّص من تلك المشاعر.

وفي دراسة لكريستوفر أوجيدا، مُتخصّص في السلوك السياسي من جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية، نُشرَت في 2015 رصد فيها العلاقة بين الاكتئاب والنشاط السياسي، انتقد الاقتصار على تعريف الاكتئاب نفسياً واجتماعياً، وشدَّد على كونه ظاهرة سياسية، حيث المشكلة الأساسية للاكتئاب عدم العدالة في توزيع العلاج وليس عدم فعاليّة العلاج.

مشاكل التوزيع سياسية واقتصادية في المقام الأوَّل، ثانياً للاكتئاب عواقب سياسية، حيث أثبتت دراسته أنَّ الأفراد المصابين بالاكتئاب هم أقلّ عرضة للمشاركة السياسية مقارنة بغير المكتئبين، هناك فجوة في المشاركة السياسية بين الناس مُتعلِّقة بالاكتئاب، حيث أظهرت الأبحاث أنَّ الأفراد الذين يعانون من ضعف في الصحة، واعتلال بدني وعقلي لهم آراء غير متكافئة في العملية السياسية.

يقول السياسي: "تمنيتُ لو كنتُ أُقدِّم للنَّاس فنَّاً جميلاً، لو كنتُ اهتميت بموهبتي في عزف العود لكنتُ الآن أستمتع بلحظات الحياة".

إضافة إلى أنّ الأشخاص المصابين بالاكتئاب أقلّ ثقة، وأقلّ فاعلية، وأقل اهتماماً بالسياسة.

الاكتئاب يُسهّل ويُعزِّز عدم المساواة السياسية القائمة على أساس الجنس والعرق والطبقات، فما يقرب من خمس الأمريكيين، ومعظمهم من خلفيات محرومة، عانوا من الاكتئاب في مرحلة من حياتهم.

ولكن بعض الخبراء يعكسون الآية، ويرون أنَّ الاكتئاب الذي بدأ كطاقة سلبيّة تتجسد في انعدام الرغبة بالحياة، ما هو إلا إفراز للسياسات العالمية التي تبنَّت الليبرالية الجديدة.

"انعدام الرغبة وليس الكبت"

يربط كتاب "صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبري الرفاهية؟" لويليام ديفيز بين الاكتئاب وظهور مُستجدَّات  زامنت التغير الاقتصادي إلى النيوليبرالية، التي اعتمدت على صفات: العدوان، الأنا، التفاؤل، والتي تجلَّت في أخلاق شخصيات مثل ميلتون فريدمان الفيلسوف الاقتصادي، وستيف جوبز  رائد التكنولوجيا الشهير.

البداية كانت في مرحلة ما بعد تولي تاتشر رئاسة وزراء بريطانيا، حيث باتت الحاجة إلى ترسيخ المنافسة "باعتبارها الثقافة المُميَّزة للشركات والمدن والمدارس والأمَّة بأكملها"، ورفض الحياة التي توزِّع "الأوسمة للجميع"، وبات الخبراء يستلهمون استراتيجات الحروب العسكرية في العلاقات الشخصية، والعاطفية، وأجواء العمل.

ومع بداية السبعينات بات ملحوظا وجود "اضطراب" في قلب الحياة التنافسية، وماحدث هو ظهور شكل مختلف من الأمراض النفسية، لا يعتمد على كبت الغرائز، أو عُقَد نفسية نابعة من الماضي، ولكن "انكماش عام في الرغبة والمقدرة"، تصيب هؤلاء الذين لا يحملون القدر الأدنى المطلوب من التركيبة النفسية الضرورية في المناخ النيوليبرالي، أو صفات العدوان الممزوجة بحب النفس والتفاؤل حيال المستقبل، هؤلاء المُسالِمون، والكُسَالَى، والمُتأمِّلون، وحتى الفنانين والمبدعين تعرّضوا كثيراً لاضطرابات نفسية، هذا الانكماش الذي بات يُعرف الآن باسم الاكتئاب، وفسَّره ديفيز بأنَّه "تعبير عن الابتلاء بغياب الرغبة لا القمع".

كتب ديفيز: لوحظ أنَّ الدول التي تنعدم فيها المساواة تزداد فيها مُعدَّلات الاكتئاب، بسبب "العوز النسبي" أن تكون فقيراً مقارنة بالآخرين، وظهرت ظواهر نفسية عجيبة، مثل اضطرابات في الشخصية للأفراد الطموحين الناجحين، وباتوا هم الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وإحساس أدنى بتحقيق الذات.

لم يعد للثقافة والأفكار السياسية ومعنى الحياة المستمد من الأيديولوجيات أي معنى بعد الستينات، حيث تعاظم حراك اقتصادي ينشد الحِيَاد والأرقام بدلاً من العقائد والأيديولوجيات، وبات هناك هوس بالقياس الرياضياتي، ونسبة السعادة والتعاسة إلى حركات أعصاب في المخ، بدأت هذه النزعة في مجال القانون مع جيرمي بنتام القانوني الأمريكي، وتجسدت في أول محاولة على الإطلاق لقياس مستويات السعادة والتي سُميت حينها "مقياس التحديد الذاتي للازدهار" على يد هالدي كانتريل مستطلع آراء سابق للرئيس الأمريكي روزفلت، حدث ذلك عام 1965.

وفي هذا المناخ ترعرعت مدرسة شيكاغو الاقتصادية حيث ميلتون فريدمان وزملاؤه الذين ابتكروا معايير الليبرالية الجديدة.

وظهرت لغة جديدة بدأ يتداولها الناس في العالم، تقوم على الأرقام، الكل يريد المزيد، المزيد هو الأفضل، المزيد من الشهادات، المزيد من السفر، المزيد من المال، كل ما هو قليل فهو سيء وشرير.

ولكن ماذا إذا كنتم من الخاسرين في هذا السباق التنافسي؟ هنا ظهر الاكتئاب، وبنفس الروح تم معالجته بطريقة "حيادية" تتبنى وجهة نظر فيزيائية كيميائية بعيدة عن لغة التحليل النفسي التي ابتكرها فرويد ويونغ، حيث الأمر لا يتعدى اختلال في خلايا المخ، وظهرت مضادات الاكتئاب كعلاج.

لذا رغبت شركات الأدوية في التخلي عن علم النفس التقليدي إلى نوع يعتمد على كيمياء تلعب في أعصاب المخ، بحسب ديفيز.

في المقابل ناصر راديكاليّون وفنَّانون، اعتماداً على نفس المبدأ بالانتصار للكيمياء المؤثرة في الأعصاب، المخدرات، وكتبت إيزابيل الليندي كتاباً متعلقاً بالرغبة، والطعام، والسُّكر سَمَّته "أفروديت"، وامتدحت الماريجوانا، واعتبرت التحريم القانوني لها ما هو إلَّا رغبة الأنظمة السياسية في السيطرة على سلوكيات الناس.

وأوجز نيكولاس ساند، الكيميائي صانع عقار الأسيد الشهير في حركات الهيبية بالستينات وابن لفيزيائي شارك في مشاريع صناعة القنبلة النووية التي ضربت اليابان، تلك الرؤية قائلاً: لقد اخترعت الولايات المتحدة القنبلة النووية لتدمير العالم، واخترعنا الأسيد لإصلاحه.

يقول المعلم الهندي أوشو: المشكلة الأساسية ليست في القدرة على الحياة، أنتم مولودون ولديكم القدرة، المشكلة  هي كيف ألا تسمحوا للآخرين أن يدمّروا تلك القدرة، ويزرعوا فيكم الشعور بالذنب ليحموا أنفسهم.

في هذه الأجواء بستينات القرن الماضي برزت أخويات التأمل رافضة الحالة التنافسية، و"بزنسة" الوجود الإنساني، حيث تتحول خبرات الفرد وعلاقاته إلى "رأس مال اجتماعي" يتم استثماره في الشركات والوظائف والربح، وأبرز تلك الأخويات التابعة للمعلم الهندي أوشو، حيث انتقد في محاضراته الصفات التي اعتبرها ديفيز تركيبة نفسية للرأسمالية الجديدة، اعتبر "الأنا" شراً، والطموح مرض نفسي أخطر من المخدرات، وهاجم رجال الدين والسياسيين والأطباء النفسيين، وامتدح الكسل والاستمتاع بملذات الحياة.

يقول أوشو أنَّ رجال الدين يعدونكم بحياة سعيدة في الجنة، والسياسيون يدعونكم للتحمّل من أجل السعادة في المستقبل، وهذه الوعود دائماً تظهر عندما تكونون تعساء، يخلق الساسة ورجال الدين فيكم الشعور بالذنب، يأذونكم ويجعلونكم تشعرون بالذنب، يتم تدجينكم لتعيشوا حياة غير طبيعية، والمشكلة الأساسية ليست في القدرة على الحياة، أنتم مولودون ولديكم هذه القدرة.

المشكلة الأساسية هي كيف ألا تسمحوا للآخرين أن يدمِّروا تلك القدرة، عندما يدمرونها فيكم، يجلبون الشعور بالذنب أيضاً، الشعور بالذنب يحميهم.

يقول أوشو: "في البداية يقتلونكم، ثم يجعلونكم تشعرون بالذنب لأنكم انتحرتم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard