شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كم أونصة من السَّعادة تكفيك؟!‎

كم أونصة من السَّعادة تكفيك؟!‎

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 20 أبريل 201911:00 ص

"يقول تولستوي في مفتتح روايتِه آنا كارنينا: أسباب السعادة تتشابه، أما أسباب الشقاء فتتفرّع إلى أغصان وأفنان." ما الذي يمكن قوله عن السعادة إذن؛ إذا كانت وجهة نظر تولستوي أن أسباب السعادة تتشابه، فعلينا التفكير فيها ببصيرة نافذة لرؤية مثيلاتها المتشابهات، إذ ربما نكون غافلين عنها.

الكتب التي تظهر كلمة سعادة في عناوينها لا تُعدّ ولا تحصى، وفي جميع المجالات، كتب جادّة تتّخذ نهج الفلسفة في تساؤلاتها عن السعادة، وأخرى في علميْ النفس والاجتماع، إلى جانب عدد لا يستهان به من كتب التنمية الذاتية التي تتفنّن في تقديم النصائح لسُبل الحصول على السعادة.

يأتي كتاب "عشر دقائق نحو السعادة"، للباحثة ساندي مان التي تعمل محاضرة في إحدى الجامعات البريطانية، لينضمّ إلى قائمة الكتب الجادّة التي تعتبر أنها توصلت من خلال خبرتها كطبيبة نفسية إلى تقديم مقترحات تساعد البشر على المضي نحو طريق السعادة.

لكن كتاب مان رغم خبرتها الطويلة، لا يبتعد عن وجهة النظر التي تؤكد على كلّ ما قيل من قبل، حول تغيير الفرد لزاويةِ رؤيته للحياة، والعودة للخطط النموذجية لتحقيق معادلة التوازن النفسي للتغاضي عن السلبيات، والتسامح مع الآخرين، والتعامل مع الذات بنوع من الرحمة والحنو، إلى جانب لائحة ارشادية طويلة حول التعامل مع النفس والجسد.

يقول بوثيوس في عزاء الفلسفة: "لا شقاء إلا ما تعدّه أنت كذلك"، فالتَّعاسة قد تنجم عن خللٍ في التفكير، وعن نسيان حقيقة أننا لا نعيش الحياة بل نعيش تأويلنا لها.

أما في حال العجز عن التفاعل مع هذه المقترحات فإن المؤلفة تنصح بالعودة إلى الطريق التقليدي وارتياد عيادة الطبيب النفسيّ بحثًا عن مساعدة، وهربًا من شبح الاكتئاب.

في مقابل السعادة من الصعب تحديد حجم الآلام التي يعاني منها البشر، سواء في هذا الجزء من العالم الذي ننتمي إليه، أو في بلدان أخرى أكثر تعاسة وبؤسًا من بلداننا.

من المؤكد أن مسببات الفرح والبهجة وأيّ نوع من المسرّات، تتفاوت بين شخص وآخر. وإذا كان المال يعتبر عنصرًا مشتركًا بين السواد الأعظم من البشر لظنّهم أنه أحد مصادر السعادة، فحسب دراسة أمريكية أنه بعد تجاوز الدخل مبلغ 75 ألف دولار سنويًا فإنّ أيّ زيادة على هذا المبلغ ليس لها تأثير يُذكر على الإحساس بالسعادة. هذا لا ينفي وجود أشخاص لا يربطون سعادتهم بالمال، ويكتفون من الحياة بالبسيط منها، غير مبالين بمباهجِها الكثيرة.

في عام 2018، تصدرت فنلندا وفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة، أكثر الدول سعادة على سطح الأرض؛ وليس هذا غريبًا عليها لأن هذا البلد من ضمن الدول الاسكندنافية التي تحتلّ دائما المراكز الأولى في أعلى معدّلات السعادة، للحدّ الذي دفع علماء الاجتماع إلى التوقف أمام أسلوب حياتهم بغرض استنساخ تجربتهم.

والطريف في الأمر أنه في تحليل تلك التجربة، تمّ النظر إلى أمور في غاية البساطة لا تتعلق بالرفاه المادي بل تقوم على الاسترخاء أمام المدفأة في الليالي الباردة؛ تربية الحيوانات الأليفة، الجلوس للتأمل في ضوء الشموع أو في فراش دافئ واحتساء الشاي مع الأسرة؛ أي أن كل هذه التدابير التي تسمى في الدانمارك "تقنية الهايجي"، تتعلق بالسلوك الحميميّ نحو العالم الخارجي ونحو الذات.

لكن في القرن الواحد والعشرين، في زمن ثورة التكنولوجيا، تبدّلت وجوه كثيرة للسعادة العصرية، سواء العائلية منها أو الفردية، ضعفت الروابط الأسرية والإنسانية عموماً، وشاع الإقبال الجنوني على ساعات طويلة من العمل بغية التمكن من مجاراة الرَّكب الحضاري، واقتناء وسائل ترفيه واتصال يخمن المرء أنها ستجعله سعيداً حقّاً، وما إن يمتلكها وتزول بهجة حضورها حتى يعود إلى مربّعه الأوّل، ليكرّر البحث من جديد عن شيءٍ آخر يبعده عن الإحساس بالسأم.

لو سألت نفسك: متى آخر مرّة شاهدتُ فيها إنساناً سعيداً حقّاً، ستتوقف مليّاً للتفكير والتأمل - في حال تذكرت أحداً ما- إذا كانت رؤيتك لسعادته حقيقية.

في مقابل السعادة من الصعب تحديد حجم الآلام التي يعاني منها البشر، سواء في هذا الجزء من العالم الذي ننتمي إليه، أو في بلدان أخرى أكثر تعاسة وبؤسًا من بلداننا.

لكن السعادة في حقيقتها نسبية جدّاً، ولا تتمّ حقّاً إلا عن تسليم وقناعة واستغناء نابع من روح تحرّرت من أسَرٍ غريزة التشهي التي تشبه النار في احتياجها لحطبٍ مستمرّ .

معظم الفلاسفة يتّفقون على أن تقليص دائرة الشقاء في حياة الإنسان مرهون بتنمية مهارات التفكير، وكما قال بوثيوس في عزاء الفلسفة: "لا شقاء إلا ما تعدّه أنت كذلك"، فالتَّعاسة قد تنجم عن خللٍ في التفكير، وعن نسيان حقيقة أننا لا نعيش الحياة بل نعيش تأويلنا لها، فالوقائع تُمحى ولا يبقى إلا تأويلنا لها، وفكرتنا عنها، وهذا ما يشقينا أو يسعدنا.

وإذا كانت الأونصة هي وحدة قياس تستخدم مع المعادن النفيسة، فإنّ قياس معدّل السعادة –إن وجد- سيكون مبهجاً إن حصل كلُّ إنسان على عشر أونصات من السعادة على مدار حياته، للصحة، للحبّ، للأبناء، للمال، للعمل، للبيت، للتفاؤل، للنجاح، للاستقرار، لسكينة النفس، وراحة البال. هناك كلمات أغنية قديمة تقول: "كلنا عايزين سعادة… بس فين هي السعادة؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard