شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا لا ينجح العربُ في كتابة الروايات البوليسية؟!

لماذا لا ينجح العربُ في كتابة الروايات البوليسية؟!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 25 أبريل 201902:53 م

كثيراً ما وقع الحديث عن غياب الرواية البوليسية في عالم الأدب العربي، ولكن النقاش في الغالب يذهب نحو الحديث عن قدرة الروائي العربيّ على كتابة هذا النوع الدقيق من الرواية. والحقّ أن الأمر يتعدى مسألة جاهزية الكاتب العربي لكتابة هذا الأدب إلى طبيعة هذا النوع نفسه والعناصر المكوّنة له وعدم توفّرها عربياً لكي تنشأ رواية بوليسية عربية خالصة.

الأرضية المضادة

تمثّل المنطقة العربية أرضيةً جديدة لفكرة هذا النوع الأدبيّ نفسه، فالمجتمعاتُ العربية مجتمعات تنتصر للجاني، ولا يعنيها المجنيّ عليه أو الضحية لأنها مجتمعات مناوئة، في العلن أو في الخفاء، للأنظمة التي تحكمها، فتخلق دائماً أعذاراً للجاني لينجو من البوليس الذي تسمّيه "حاكماً"، ولا تأتمنه على نفسها، ولا تؤمن به لأنه ليس نفسه البوليس في الدولة الديمقراطية، إنما هو بوليس النظام، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون في صفّ الفرد في غياب فكرة "المواطنة".

ونتيجة لذلك تسعى المجتمعات العربية دائماً إلى تأمين طريقِ إفلاتٍ للجاني انتقاماً من البوليس، لتُشعرَ النظامَ بالفشل.

وربّما لذلك التصور سمّى العرب أبناءهم باسم القاتل، لا باسم المقتول، فعلى سبيل المثال، الرائج هو اسم قابيل، وليس هابيل!

إن المتأمّل في الذهنية العربية يلاحظ أن البطل الشعبيّ هو "الباندي" باللهجة التونسية، أو الفتوة والمجرم، وحتى في الحكايات الشعبية تجده المتحيّل من خلال شخصية جُحى مثلاً.

عندما قُتل المجرم التونسي الأشهر، "علي شورّب"، هرع آلافُ التونسيين، ووضعوا العلم التونسي على جثمانِه في صورة رمزية لواقع من يمثّلهم، وتدخّل البوليس وقتَها لنزعِ العلمِ من فوق جثمانه، ومع ذلك، خرج الشعب بالآلاف في جنازته. نفس الشعب اليوم جعل من صورة هذا المجرم أيقونة تُطبع وتباع على قارعة الطُّرق، جنباً إلى جنب مارلين مونرو، ومايكل جاكسون، وجيمس دين، والرئيس بورقيبة نفسه.

ولعلّ تلك العبارة الشهيرة لـعلي شورب: "أنا الحاكم منِستَعرفشْ به"، التي كان يردّدها دائماً، وقد صدرتُ بها روايتي "الغوريلا"، كانت أشبه ببيان(مانيفسْت)، يمثّل صوت الشعب برمّته؛ شعب لا يرى الحاكم إلا عدواً لا يستحقّ الاعتراف به.

الحقيقة والحق

لا يؤمن المواطن العربيّ بالحقيقة ليبحثَ عنها؛ في المقابل يؤمن بالحقائق في تعدّدها؛ ذلك التعدد المحلوم به في المشهد السياسيّ يسحبه على الحقيقة. ويؤمن في مقابل الحقيقة بالحقّ، لذلك يريد أن يأخذ حقّه بيدِه، لا عبر وكيلٍ مفوض اسمه الشرطيُّ أو المحقّق، وهذا عائق آخرُ أمام ظهور الرواية البوليسية .

تمثّل المنطقة العربية أرضيةً ضديدة لفكرة هذا النوع الأدبيّ نفسه، فالمجتمعاتُ العربية مجتمعات تنتصر للجاني، ولا يعنيها المجنيّ عليه أو الضحية لأنها مجتمعات مناوئة، في العلن أو في الخفاء، للأنظمة التي تحكمها.

فالحقُّ مسلوب وميؤوس منه، وهذا ما يجعله يشرع للبحث عن استردادِه بشتّى الطرق، بما في ذلك القتل والسرقة والتحيّل، ولذلك دائماً يحاول الجميعُ حمايةَ المذنب.

يعي المواطن العربي جيداً أنه يعيش ما قبل الدولة؛ الدولة بمفهوم "ماكس فيبر"؛ فهو لم يفوِّض سلطةَ النظام لتدافعَ عنه، ولذلك لم يسلّمها قوّتَه، ولم يتنازل لها عن حقّه في ممارسة العنف لتستأثرَ به. فالحاكم العربي إمّا جاء بالتوريث أو عبر تزويرِ الانتخابات أو عبر انقلابٍ عسكري.

الكاتب العربيّ يعلم أن المتلقي العربيّ لن يقبل بالشرطيِّ الخير، ولا حتى الذكيّ. لن يقبل بالبوليس إلا في صورة العنيف القاتل المرتشي ومعه آلة التعذيب.

الكتّاب العرب إذاً لا يمكن أن يقدِّموا شهاداتِ براءةٍ للبوليس برواياتٍ بوليسية، والحال أنه كلما ظهر كاتبٌ مهمّ إلا ورمى به النظامُ في السجون أو في المنافي أو أجهزت عليه السلطة أو جوّعتْه.

والكاتب العربيّ يعلم أن المتلقي العربيّ لن يقبل بالشرطيِّ الخير، ولا حتى الذكيّ. لن يقبل بالبوليس إلا في صورة العنيف القاتل المرتشي ومعه آلة التعذيب. وهو يعلم أن الرواية لا تتنازل عن الإيهام بالواقعية، وليس من الواقعية في شيءٍ أن تطلقَ شرطياً خيراً. الشرطيُّ العربيّ محكومٌ بمصيرِ التحوّل إلى فاسد دائماً.

تيّار الرواية البوليسية المضادّة

عندما أراد ميغال دي سرفنتس تحطيم رواية الفروسية كتبَ روايةً في الفروسية أو استعان بكلِّ عناصر رواية الفروسية في "دون كيخوطي"، وقد فعل الشيءَ نفسَه ارنستو ساباتو الذي حاول تهديم الرواية البوليسية من الداخل في روايتِه "النفق"، وكذلك فعل شارلز بوكوفسكي في روايته "أدب رخيص".

إن الرواية البوليسية تحضر عبر حبكتها في رواية أخرى، منشغلة باللاعدالة والظلم؛ تحضر في "أنتي بوليسيياي" أو "الرواية البوليسية المضادة" لضوابط النوع.

ولعلّ تلك العبارة الشهيرة لـعلي شورب التونسي: "أنا الحاكم منِستَعرفشْ به"، كانت أشبه بمانيفسْت يمثّل صوت الشعب برمّته؛ شعب لا يرى الحاكم إلا عدواً لا يستحقّ الاعتراف به.

ولعلّ تلك العبارة الشهيرة لـعلي شورب التونسي: "أنا الحاكم منِستَعرفشْ به"، كانت أشبه بمانيفسْت يمثّل صوت الشعب برمّته؛ شعب لا يرى الحاكم إلا عدواً لا يستحقّ الاعتراف به.

إذا كتب الروائيُّ العربيّ الروايةَ البوليسية فهي مجرّد تلوين على مدونة، أو هي توظيف لعناصر السرد البوليسيّ، وليست روايةً بوليسية صافية، بل هي شكلٌ من أشكال التجريب، كما فعل التونسي فرج لحوار مثلاً، وهكذا تكون الرواية استخوذتْ على عناصر الرواية البوليسية دون أن تدعيها.


نشير هنا إلى رواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو أيضاً، و"مَن قتَل بالومينو موليرو" لماريو فارغاس، و"فتاة القطار" و"حبّ قاطعي الطريق" لماسيمو كارلوتو الذي يقول: "لستُ مهتمّاً بفوز الطيّبين وخسارة الأشرار، أنا مهتمّ بالواقع، وهذا واقعي. لم أقُم ولو لمرّة باختراع جريمة قتل، فكلُّ جريمةِ قتلٍ في كلِّ ما أكتبه ترتبط بجريمةِ قتلٍ حقيقية، جريمة قمتُ بالفعل بقراءة تقرير التشريح الخاصّ بها، ورأيتُ وثائقَها؛ هذه هي طريقتي في توثيق ما يحدث في إيطاليا".

عربيّاً يمكن الإشارة إلى أعمال الجزائري عمارة لخوص أيضاً، إذ يذهب بحبكتها البوليسية إلى مناقشة قضايا حضارية معاصرة من الإسلاموفوبيا، والجهويات، وصراع جنوب/شمال، وقضايا الأديان، وصراخ الحضارات، وقضية التعايش، ووضع اللاجئين، ومسألة الهويّات والإرهاب، وحتى أفكار فلسفية تهمّ الإنسانَ، ويَظهر ذلك في أعماله: "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضَّك؟"، و"القاهرة الصغيرة"، "و"فتنة الخنزير الإيطالي الصغير في حيّ سان سالفاريو"، و"مزحة العذراء الصغيرة في شارع أورميا".

الكاتب العربيّ يعلم أن المتلقي العربيّ لن يقبل بالشرطيِّ الخير، ولا حتى الذكيّ. لن يقبل بالبوليس إلا في صورة العنيف القاتل المرتشي ومعه آلة التعذيب.

إن الرواية البوليسية الغربية نفسها تعيش أزمةَ ثقةٍ، فبعدَ سخريةِ بوكوفسكي وأرنستو ساباتو، تقدّم رواية "الوعد" للسويسري فريدريش دورنمات هجاءً كبيراً لمنطقها بإصرارِها على فكرة وجود العدالة في واقع مضادّ، فليست العدالة قائمةً دائماً إذا لم تكن أصلاً مستحيلة.

تقرأ في الرواية: "أنا لم أحسن الظنَّ يوماً بالروايات البوليسية... هناك للأسف احتيالٌ يمارَس في هذه القصص. ولا أعني بهذا أن مجرميكم ينالون دوماً عقابَهم، فهذه الأسطورة الجميلة ضرورية من الناحية الأخلاقية. إنها من الأكاذيب التي تقوم عليها دعائم الدولة".

تمثّل المنطقة العربية أرضيةً ضديدة لفكرة هذا النوع الأدبيّ نفسه، فالمجتمعاتُ العربية مجتمعات تنتصر للجاني، ولا يعنيها المجنيّ عليه أو الضحية لأنها مجتمعات مناوئة، في العلن أو في الخفاء، للأنظمة التي تحكمها.

ويضيف أن "الأحداث عندكم تسير بصورة منطقية، وكأن المرءَ يلعب الشطرنج؛ هنا المحرك وهنا الضحية؛ هنا المطّلع على الجريمة وهنا المستفيد. يكفي أن يعرف المخبرُ القواعدَ، وأن تتكرّر اللعبة حتى يمسك بالمجرم ويساعد العدالةَ على الانتصار... الصدفة لا تلعب في رواياتكم أيّ دور... منذ قديم الأوّل وأنتم -أيها الكتّابُ- تضحّون بالحقيقة من أجل القواعد الدرامية. حان الوقتُ لتُرسلوا هذه القواعد إلى الجحيم. لا يمكن أن يسير الحدث وفق حسبة معينة.".

وتبقى الأسئلة قائمةً: هل الأنظمة الديمقراطية التي ترعرعتْ فيها الرواية البوليسية مازالت فعلاً أنظمة ديمقراطية؟ وهل يكفي هذا الوضع السوداويّ للأنظمة البوليسية لكي نقولَ باستحالة نشأة الرواية البوليسية في العالم العربيّ؟ هل نحن مع استحالة كتابة الرواية البوليسية أو مع استحالة نجاحها واستحالة التلقي؟ وهل نحن فعلاً نملك إدارة المتلقّي العربيّ في ظلِّ هذا الانفجار الاتّصاليّ؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard