شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن ركاكة كلمات بعض الأغاني العربيّة: المتلقي ليس غبيًا

عن ركاكة كلمات بعض الأغاني العربيّة: المتلقي ليس غبيًا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 8 أبريل 201906:39 م

من المعلوم بالخيال أن "المغْنَى حياة الروح"، مثلما "نظّر" بيرم التونسي في واحدة من تجلياته، لكن أي نوع من المغنى يكون "حياة للروح"؟ هل هو ذلك "الهبْد" التأليفي لمن يسمي نفسه "شاعر غنائي" من كُتّاب أغنية هذه الأيام؟

بالمناسبة، مصطلح "شعر غنائي" لا يعني أبدًا "الكلام الذي يكتب ليُغنى"، لكنه كل كلام يتعلق بمشاعر الإنسان، وهذه ليست حكرًا على كلام الحب والهجر واللوع بين رجل وامرأة، فالكون أوسع من ذلك بكثير، وبالتالي فإن الشعر والأغاني يتسعان لكون أو أكثر.. فالشعر، باعتباره الفن الكتابي الأرقى لأي أمّة، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بفن الغناء والموسيقى، حتى أن أهم كتاب عن الشعراء في التراث العربي جاء تحت عنوان "الأغاني" لـأبي الفرج الأصفهاني، وبموت الشعر الحقيقي تموت الأغنية وتنهار صناعة الموسيقى، التي قال عنها ابن خلدون في مقدمته إنها "أول ما يفسد من العمران".

فما هو الشعر؟.. سؤال كبير وإجاباته مفتوحة، فالشعر والأغنية وجهان لعملة واحدة: إنشاد الذات لكل معنى، امتلاؤك بالطيران وقدماك على الأرض، خلود الروح وتلكؤها وهي مشبعة بالحرية والجمال، واكتشاف مناطق أخرى لم تطأها قدم قبلك، لكنهم للأسف يكتبون "شعر غنائي".. يغنيه نجوم الطرب، يختارونه لصناعة "ألبوم" سنوي يحصدون به وجعًا في قلوب المتهافتين على استهلاك العواطف، ويكدّسون أموالًا في حساباتهم البنكية، ويجرون به عمليات تجميل ويذهبون به إلى "الجيم"، كمطلب جماهيري لتكون حنجرتك قوية، لكن الرصيد الفني بكل أسف يبقى "صفرًا كبيرًا".

نقص كالسيوم

حين تضعف العظام لا يكون لها قدرة على حمل صاحبها، تمامًا كالكلمات الهشّة، التي اختيرت على عجل من مؤلف يفكر في "تعبئة الشريط" أو "يشتري النجف" كما قال أحدهم يومًا ما، لذا لا يمكن لهذه الأغاني الهشّة أن تطير متريْن إلى الأمام، ستسقط مع أوّل خطوة أو تتبخر كشبح، لا ترى لها أثرًا ولا وطن لها إلا فراغ أفئدة المراهقين.

نظرة سريعة على كلمات أغاني هذه الأيام ستخبرك أن "المغْنَى" صار تفصيل كلمات حسب الطلب، أما أن تجد مؤلفًا أتعب خياله و"جاب الكلمة من الشمخ الجواني" حتى مثل الريس ستاموني في الكيف، فهذه عملة انقرضت بكل أسف.. ولئلا نقع في فخ إطلاق أحكام دون أدلة، سنختار 3 أغنيات لثلاثة مطربين ونُخضها لأبسط قواعد العقل والتذوق الفني والجمالي:

أولا- تغني أنغام "بتحب مين؟":

"بتحب مين؟ إياك تكون بتحبني

خوفك عليا شككني فيك.. بتحب مين"..

كاتب الأغنية يتساءل على لسان المطربة عن تلك التي يحبها حبيبُها، ما اسمها؟ لكن سرعان ما تصدمنا جملة "إياك تكون بتحبني"، ولا أفهم هل هذا تحذير أم سخرية؟، ونتابع: "خوفك عليا شككني فيك"، لم أجد علاقة منطقية واحدة بين السطر الأول من الأغنية وهذه الجملة الديكارتية الشكّية؟ ثم فجأة يغلق المذهب بالسؤال العقيم "بتحب مين؟"، بتكرارها كجملة مُتكأ، ما يوحي بالحيرة لكنه لا يبني لها طريقًا مناسبًا.

ما المعنى العميق لهذه الكلمات التي رصّها أحدهم دون اكتراث إلا بفكرة الصب في قوالب بمصانع الطوب؟، بل ما المعنى أصلًا لهذه الكلمات؟.. طيب لا يهم المعنى.. ما المتوقع أن يحدث في وجدان الجمهور الذي يتلقى هذا الكلام الفارغ حرفيًا؟ أظن أننا سنخرج من هذه الكلمات كما دخلنا، بلا أثر.. بلا جملة تجعلنا نفكر.. نعم نفكر، فالغناء تفكير، هل تفكر الروح؟ نعم لأن التفكير ابن الوجود، ولا وجود خارج العقل والروح وتدبر الكلمة بحساب، هذا الكلام أكاد أصل به إلى حد الشطط، سامحوني، بأن أصفه بالكارثة النفسية للمستمعين.. فالمنطق صفر.. الصدق صفر.. والعدم هنا سيد الموقف.

ثانيا- يغني عمرو دياب "وياه":

"دا اللي كان نفسي فيه.. لو تيجي صدفة تجمعني بيه.. فرصة عمري أضيعها ليه؟ مش معقول..

عيني قدام عينيه.. بأكتر م اللي حلمت بيه.. دا اليوم اللي أنا مستنيه.. عشان أقول.."

هل يمكنك استبدال السطرين الماضيين بجملة قصيرة من 3 كلمات؟ نعم يمكن لأي عابر سبيل ضغط هذه الثرثرة في كلمات أكثر كثافة وصدقًا ومشاعر.. والباقي يُرمى في سلة المهملات وساعتها لن يتأثر العالم، لكن الأزمة هنا أكبر، فهذه الكلمات وُضعت، حسب ظني، على لحن أعدّ مسبقًا، فقد أسمعوا الكاتب لحنًا وأرادوا منه أن "يركّب" كلمتين عليه، وهذا نوع من الإقحام، فكيف يرضى شاعر أن يُقحم كلماته ويبتذلها بهذا التلفيق لتناسب منطوقًا موسيقيًا على لحن جاهز، أو ربما مسروق، هذه جناية في حق الجمهور واستمناء بلا شهوة، لقد وصلنا إلى مرحلة غياب ركن مهم من الأغنية، وهو الكلمة، غياب تام، فلم يبق للمستمع إلا صوت آدمي ولحن آلاتي، فما الداعي من الكلمات والتأليف إذن كعنصر حيوي من عناصر ثالوث الأغنية؟، يمكننا أن نقضيها "دندنة" أو تلاعب أصوات بشرية بنُباحات مع آلات من كل جنس ولون وينتهي الأمر ونعود إلى عصر الإنسان الأول عبر الصرخات غير المفهومة في الغابة الممتدة.

ثالثًا، تغني شيرين عبد الوهاب "أخيرا اتجرأت":

"أخيرًا اتجرأت.. أخيرًا أنا دلوقت.. هاعلي صوتي عليك

هاقوله إن أنا فوقت.. وإن أنا ماصدقت .. أخلص من حبي ليك

أخيرًا اتجرأت.. من كل كلمة حلوة منه أنا اتحرمت.... انا اشتريت نفسي ومنه أنا اترحمت..

إلى آخره...."

في علم الصياغة، هناك ما يسمى بالسلاسة اللغوية، فمرونة الجملة تأتي من تركيبها بتراتبية نغمية تخرج من تلقائية وموهبة الشاعر، لذا لا يمكن أبدًا أن يقول كاتب عامية موهوب جملة "ومنّه أنا اتحرمت" إلا إذا كانت القافية قد أعجزته فلجأ إلى إعادة ترتيب الجملة بشكل مزعج وبـ"لي ذراعها" ليصل إلى غرضه الدنيء من قافية مصنوعة صناعة رديئة.. راجع (اتحرمت اترحمت).. ولم يكن ليصل إليها دون أن يقول: "ومنه أنا اترحمت"، لكن الطبيعي كان ليقول: "اشتريت نفسي واترحمت منه"، وبهذا ستبدو الجملة غريبة عن سابقتها ولا تمت لقافيتها بصلة.. فكيف يكون شاعر إذن لو لم يصنع قافية ويجعل من الكلام بعض الحروف المتشابهات ليقولوا عليه إنه "بورم كلمات"؟!

ارتبط الشعر ارتباطًا وثيقًا بفن الغناء والموسيقى، حتى أن أهم كتاب عن الشعراء في التراث العربي جاء تحت عنوان "الأغاني" لـأبي الفرج الأصفهاني، وبموت الشعر الحقيقي تموت الأغنية وتنهار صناعة الموسيقى.

حين تضعف العظام لا يكون لها قدرة على حمل صاحبها، تمامًا كالكلمات الهشّة، التي اختيرت على عجل من مؤلف يفكر في "تعبئة الشريط" أو "يشتري النجف" كما قال أحدهم يومًا ما.

 لقد وصلنا إلى مرحلة غياب ركن مهم من الأغنية، وهو الكلمة، غياب تام، فلم يبق للمستمع إلا صوت آدمي ولحن آلاتي، فما الداعي من الكلمات والتأليف إذن كعنصر حيوي من عناصر ثالوث الأغنية؟

إذا أردت أن تقف على أسباب الركاكة في صناعة القوافي والصياغة الصوتية للكلمات فيمكنك أن تذاكر هذا المثال جيدًا وستعلم أن هذه "صناعة صيني" مما يروج على فرشات الأرصفة في أسواق البضاعة الرخيصة، كما يمكنك بعد ذلك اختبار الأنواع الأخرى من البضاعة المعروضة التي لم يتسع لها هذا المقال.

وهنا نختم بمنطق كلمات الأغنية في التعبير عن الجرأة بـ"علو الصوت"، أهذا يليق بأي عاقل؟ الجرأة بالتأكيد هي عكس مفهوم "الزعيق" بل هي أكثر قربًا للفعل الصامت، "شعارنا أفعال لا أقوال"، فعلو الصوت حسب درس "ثالثة ابتدائي" دليل على ضعف موقفك، فلماذا ورّط الكاتب مطربته في قول معنى يُضعفها ولا يوصمها بالجرأة مثلما تتمنى هي؟، لكن لا غرابة على أي حال، فـ"المطربة" ذاتها، مع التحفظ على التسمية، لها تصريح ينم عن مدى استيعابها للأشياء حين قالت في أثناء خناقة مفتعلة لها مع عمرو دياب: "إذا كان هو هضبة فأنا هرم"، تمامًا كمن يقارن بين طول وثقل ولون، ويسأل أيها أفضل من الآخر..

أيها المطربون! إذا كان المؤلف "مجنونًا" فإن المستمع عاقل.

عفوًا لم نتمكن من وضع لينكات للأغاني المذكورة، لأنها، بحسب المقال، خارج إطار الأغاني المكتملة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard