شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بعد الفلافل والحمص: الزعتر الفلسطينيّ يُعرّف كبهارٍ إسرائيليّ

بعد الفلافل والحمص: الزعتر الفلسطينيّ يُعرّف كبهارٍ إسرائيليّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 26 مارس 201910:40 ص

قبل سنوات عديدة، عندما كنت لم أزل أدرس في جامعة حيفا، أجرت إحدى القنوات التلفزيونيّة العربيّة مناظرة جمعت فيها شبان وشابات فلسطينيات وإسرائيليّات للحديث عن قضايا سياسيّة، حيث صُوّرت الحلقة في حيّ وادي الصليب المُهجّر في حيفا، الوادي الذي يفقد معالمه الأصيلة كل يوم.

في تلك الحلقة، شارك أحد أصدقائي الفلسطينيّين، وفي خضم النقاش السياسيّ، انتقل الحديث إلى الطعام، وتطوّر الجدل والنقاش والخناقة، من مواضيع محوريّة إلى أهم مركبات الهويّة الفلسطينيّة إلّا وهي الأكل، حيث بموازاة كل محاولات طمس إسرائيل لمركبات الهويّة العربيّة والفلسطينيّة للمكان وناسه، تستمر محاولات سرقة أهم ما يميّز هذه الهويّة، ألا وهو الطعام، فيتم ترويج الفلافل، الحمص، التبولة وغيرها في العالم على أنه "طعام إسرائيلي".

"قولي، ستّك بتعرف تعمل فلافل؟"

المهم، هذه الخناقة تطول ومتواصلة، لكن بالعودة إلى المناظرة التلفزيونيّة التي شارك فيها صديقي، وعند ذروة النقاش السياسيّ، وقف صديقي سيّد، ووجه حديثه إلى أحد الشبان الإسرائيليّين، قائلًا: "قولي، ستّك بتعرف تعمل فلافل؟". (ستّك أي جدّتك باللهجة الفلسطينيّة).

وهُنا ساد الصّمت. ونحن لم نتوقف عن الضحك حتى يومنا هذا. حيث أن هذا السؤال هو من أهم الأسئلة التي بإمكانها الانتصار في هذا الجدل اليوميّ حول هويّة حبّة الفلافل والبهارات التي يجب أن توضع على الحمص. نحن، نأكل الفلافل عند جدّاتنا، لأنهن يعرفن كيف تُصنع أعظم حبّة فلافل بالعالم.

يصبّ هذا السؤال بالصراع ما بين من ينتمي إلى مطبخ الفلافل أو الطعميّة، ومن أتى إليه مستعمرًا إياه وأهله. وبالتالي، بالطبع أن يهود حلب وإسكندرية، ينتمون إلى الفلافل والطعمية، بنفس القدر الذي تنتمي إليه جدّتي من حيث المبدأ رغمًا عن أنف الاستعمار.

أعود إلى هذه القصّة بعدما قرأت صدفة مقالًا باللغة الإنجليزيّة، يحمل الاسم: "ما هو الزعتر؟ البهار الإسرائيليّ الذي ترغب برشّه على كلّ شيء". ويتحدث المقال عن توفّر الزعتر الذي "لا يصدق" في إسرائيل، وأين يمكنك إيجاده؛ على الخبز، والأسماك، والسلطة، وكيف يمكنك أن تجده، أحيانًا مع السمسم وآخر من السماق، إلخ. بإمكانكم/ن الإطلاع على المقال لمواصلة الاشمئزاز.

المهم، الحديث عن وقاحة إسرائيل، هذا بالكلام القديم. يعني أكل عليه الدهر وشرب. الوقاحة هي جزء من البنيّة الأساسيّة لهذا الكيان. ومعركة الثقافة، هي أساسها. بمعنى، إسرائيل تعرف جيدًا أن الثقافة هي الشيء الأساسي الذي يجتمع الناس حوله، هي الهويّة الجمعيّة التي تُشعر الناس بالبيت وبالانتماء؛ إلى مكان، شيء أو بشر. اللغة، كما الأكل، كلاهما مساحات أمان.

 لم تستطع إسرائيل أن تمحو اللغة العربيّة من حياة الفلسطينيّين/ ات في إسرائيل. بمعنى، يعرف الفلسطينيّيون/ات في إسرائيل العبريّة كلغة ثانيّة، بغض النظر عن علاقتهم/ن مع اللغة، لكنها لغة يحتاجها الناس من أجل البقاء والمواصلة، ويتقنونها جيدًا، كما يستخدمون بعض الكلمات بالعبريّة عندما يتحدثون العربيّة، لكن كل هذا، لم يساهم في أن يمحو اللغة العربيّة من الأحاديث بين الناس، التعبير عن النفس، الغناء في الأعراس، الشتائم.. وأهم شيء الشتائم، بمعنى، حتى الإسرائيليّون يشتّمون بالعربيّة، يعني، كيف يمكن أن تعبّر عن أسمى شعور الغضب بأي لغة أخرى غير العربيّة وما توفّرها من ثراء لغويّ وكلمات؟ كل شيء آخر، كلام فارغ.

وعندما لم تنجح إسرائيل بمحو اللغة، رغم كل محاولاتها المستمرة، ومؤخرًا بعد قانون القوميّة، واعتبار اللغة العبريّة هي اللغة الوحيدة لدولة إسرائيل، أُخرجت العربيّة من كونها لغة رسميّة. ولذلك، فإن الحرب على الطعام، هي من أكثر ساحات العراك التي يُستثمر بها، وتُحصد نجاحات عالميّة، لأهمية الطعام أوّلًا في حياة البشر، وسياحة الطعام هي من أهم حقول السياحة في العالم، والطعام هو سبب كافٍ لأن يُستعمر موطنه.

كل محاولات إسرائيل بطمس الهويّة لم تنجح في محو اللغة العربيّة من الأحاديث بين الناس، الغناء في الأعراس، الشتائم.. وأهم شيء الشتائم، بمعنى، حتى الإسرائيليّون يشتّمون بالعربيّة.

إن الحرب على الطعام، هي من أكثر ساحات العراك التي يُستثمر بها، وتُحصد نجاحات عالميّة، لأهمية الطعام أوّلًا في حياة البشر، وسياحة الطعام هي من أهم حقول السياحة في العالم، والطعام هو سبب كافٍ لأن يُستعمر موطنه.

لكن، الزعتر!؟ هذه النبتة التي تنمو بطبيعيّة في الحقول والأراضي، بين الحجارة في القرى المهجرة، والتي إن التقطنا أحد الموظفين في "كيرِنْ كَييمِتْ لِيِسْرائيلْ" ونحن نقطفها، سوف يخالفنا حسب القانون.

وبالتالي، الزعتر هو خط أحمر. يعني، لم نتساهل مع سرقة الفلافل والحمص والتبولة يومًا، لكن مع الوقت، صرنا نسخر من الموضوع.. ها ها ها.. ستّك بتعرف تعمل فلافل؟ ويضحك الجميع. لكن، الزعتر!؟ هذه النبتة التي تنمو بطبيعيّة في الحقول والأراضي، بين الحجارة في القرى المهجرة، والتي إن التقطنا أحد الموظفين في "كيرِنْ كَييمِتْ لِيِسْرائيلْ" ونحن نقطفها، سوف يخالفنا حسب القانون.

إنّ "كاكال" (كيرِنْ كَييمِتْ لِيِسْرائيلْ: الصندوق الدائم لإسرائيل)، هي من أولى المؤسسات الصهيونيّة التي عملت منذ تأسيسها عام 1901 حتى النكبة على شراء أراضٍ فلسطينيّة لتهيّئ البنية التحتيّة من أجل توسّع الاستيطان المستمر. في مقال بعنوان "لماذا تخشى إسرائيل الزعتر والعكّوب؟" الذي نُشر في مجلّة "فسحة - ثقافيّة فلسطينيّة"، يقول ربيع إغبارية: "في سياق استخدام الطعام والطبيعة أدوات للسيطرة على الإنسان الفلسطينيّ، يشكّل المنع القانوني المفروض على قطف الزعتر والعكوب محورًا إضافيًا يحاول من خلاله الاستعمار تفكيك علاقة الفلسطينيّ بأرضه وهويّته من جهة، وإعطاء السلطة على الأرض ومواردها للإسرائيليّ من جهة ثانية".

يذكر ربيع إغبارية في بحثه أنه في العام 1977، فُرض منع قطف الزعتر البلديّ أو البريّ، عندما وقّع أريئيل شارون، وزير الزراعة الإسرائيليّ آنذاك، قرارًا يعدّل لائحة "النبات المحمّي"، ضُمّت من خلاله نبتة الزعتر إلى اللائحة، بحجة "أنّ قطفه يسبّب أضرارًا للطبيعة، وفُرضت بموجب ذلك على كلّ من يقطف أو يحوز أيّ كمّيّة كانت من الزعتر، عقوبات وغرامات كبيرة. حتّى ذلك الوقت، كانت البراري المصدر الوحيد للزعتر في فلسطين، إذ لم تكن زراعته منتشرة في ذلك الوقت".

وبالتالي، ارتبط الزعتر كما الزيتون، بقصّة بقاء وصمود الفلسطينيّين/ات في إسرائيل، هذه الرمزيّة المتجسّدة في حضور الزعتر في تفاصيل حياة الفلسطينيّ، كما أنّه تحوّل مع الوقت إلى "الكاتو" الأهمّ، إلى جانب زيت الزيتون. فأنا وآخرون، ممن وُلدوا في فلسطين وبإمكاننا الوصول إلى الجليل والقدس وغيرهما من المدن والقرى، نشتغل أحيانًا كسُعاة بريد، عفوًا، سُعاة زعتر، نحمل عند كل سفر من فلسطين إلى بلد عربي أو أوروبي ما، أكياساً من الزعتر لأصدقاء وصديقات مُنعوا من زعتر فلسطين أو يعيشون خارجها ومشتاقون لطعمه.

مقارنة بالفلافل والحمص، ربما للزعتر رمزيّة مختلفة تمامًا تجاه سرقته ونسب الكيان الاستعماري له. هي فعلًا رمزيّة مرتبطة مباشرة بالأرض وطبيعتها، بأن تمشي في البراري وتشمّ رائحة النبتة قبل أن تجدها عينك، هي العلاقة المباشرة للإنسان مع أرضه/ مكانه، الزعتر بشكله الأوّل الذي يمكن أن يُؤكل نيئًا قبل أن يُطحن ويُضاف له السمسم والسماق ومن ثم الزيت ويُدهن بالخبز أو العجين كالمناقيش. تحضير الفلافل قابل في كل مكان بالعالم، لكن الزعتر، له مناطق محددة ينبت فيها ويعيش. ومع تسمية الزعتر بالبهار الإسرائيلي بإمكاننا أن نسأل: "قولي.. ستّك بتعرف تقطف زعتر؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard