شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لعنة الجديد: زمن المطاردة والسعي نحو ما غاب عنك بين آلاف الإعلانات اليوميّة

لعنة الجديد: زمن المطاردة والسعي نحو ما غاب عنك بين آلاف الإعلانات اليوميّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 21 مارس 201907:44 ص


"يتحكّم الاستهلاك برغباتنا"، على بساطة العبارة وتراجيديتها، وردّ الفعل الذاتي العنيف ضدّها "لا أختار إلا ما أرغب به"، إلا أن تصميم الآن مادياً ورمزياً، محكوم بالاستهلاك والإعلان والرغبة بما لم يظهر بعد، حتى لو لم ندرك ذلك، فهذه الرغبة محكومة بإيقاع الإنتاج الذي يضبط تكوين العالم الرمزي المحيط بنا، هذا العالم الذي يحوي دوماً "الجديد" و"العصري" والذي تقف وراءه آلات تضخّ سلعاً وأفكاراً لا يمكن حصرها، لتشبع رغبتنا بالاختلاف أو التشابه وملاحقة إيقاع العصر.

هذا الجديد، والأكثر جدّة، والجديد الذي لم يُنتج بعد والذي علينا أن نطلبه مسبقاً، ينطبق على الكثير من المنتجات، سواء كانت هواتف نقّالة أو حواسيب أو ثياباً أو أحذية أو أفلاماً، هناك دوماً عدم رضى عن الشكل القائم حالياً والمنتجات المتوافرة ضمناً، لا بسبب وظائفها "الفعّالة" في الكثير من الأحيان، بل بسبب خاصيّتها الرمزيّة " الجدّة"، التي تتغيّر دوماً وتنفي ما قبلها، ليس فقط رمزياً، بل مادياً أيضاً، إذ يُصمّم "القديم" و "الموجود الآن" ليفقد فاعليته بعد مدّة من الزمن، كحالة الهواتف النقّالة التي يصيبها العطب فجأة بعد أن يظهر هاتف جديد ونضطرّ لتحديث نظام التشغيل القديم.

يهدّد الفايروس المسمّى بـ"الجديد" توازننا النفسي، فالعالم هشّ وبائد، ولابد من تغيير ما فيه، و الحصول على الإشباع الآني الذي يتحقّق مع الاستهلاك، لا فقط عبر شراء أو تلقّي "المُنتج" الجديد، بل ضمان الحصول عليه حتى لو كان مُقرصناً أو غير شرعيّ

يهدّد الفايروس المسمّى بـ"الجديد" توازننا النفسي، فالعالم هشّ وبائد، ولابد من تغيير ما فيه، و الحصول على الإشباع الآني الذي يتحقّق مع الاستهلاك، لا فقط عبر شراء أو تلقّي "المُنتج" الجديد، بل ضمان الحصول عليه حتى لو كان مُقرصناً أو غير شرعيّ، و في حال الرفض أو عدم القدرة والأهمّ عدم الانتباه، يظهر "الخوف من أن يفوتك شيء" أو -FOMO -fear of missing out-، و هي مجموعة من الأعراض النفسيّة التي تتمثّل بالقلق والحاجة للمعرفة، والسعي لضمان أنك دوماً على اطلاع على ما يحصل في العالم.

يتحوّل "الوقت" من زمن إنتاج أو لعب إلى زمن للمطاردة، والسعي نحو ما غاب عنك بين آلاف الإعلانات اليوميّة

هذه المتلازمة في عصر الجديد، تطالبك بأن تكون دوماً متصلاً بكلّ المنصات، تتابع وتعرف كل ما يحصل، "الوقت" يتحوّل من زمن إنتاج أو لعب إلى زمن للمطاردة، والسعي نحو ما غاب عنك بين آلاف الإعلانات اليوميّة، الأهمّ أنها قد تجعلك منبوذاً، أو محط نكات الآخرين ومنغّصاً لسلوكهم "الطبيعي" كأن تكون واحداً من هؤلاء البليدين أو المذنبين لأنهم لم يشاهدوا لعبة العروش game of thrones، أو لا يمتلكون تطبيق تيندرtinder، فتقصيرك هذا يدفع من حولك لضبط أنفسهم أحياناً، مع ازدراء لأنك تسبّب لهم نوعاً من الازعاج وتمنعهم من مناقشة مسلسلهم المفضّل كونك لم تشاهده بعد.

هذا الخوف من أن تكون منفياً لا يتطلّب أن تكون ضمن نسيج العصر ومنصاعاً لإيقاعه فقط، بل أن تكون واعياً بكل ما هو جديد وعصري وجزءاً منه، أن تمتلك موقفاً منه رفضاً أو قبولاً، وأن تجاهلك، أو خيارك لتجاهل الجديد، يجعلك موضع اللوم، إذ سهّلتْ وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا أساليب التلقّي، كل شيء يصلك جاهز ومتقن ومعدّ للاستهلاك بلمسة على الشاشة، والرفض هنا يقابله اتهام بالفوقيّة، ما قد يؤدّي إلى نوع من الرفض الاجتماعيّ والاتهامات بعدم الاستفادة مما هو متوافر.

لعنة الجديد: الخوف من أن تكون منفياً لا يتطلّب أن تكون ضمن نسيج العصر ومنصاعاً لإيقاعه فقط، بل أن تكون واعياً بكل ما هو جديد وعصري وجزءاً منه وأن تمتلك موقفاً منه رفضاً أو قبولاً

الشروط السابقة والاتصال الشديد "بيننا" يضمن لنا أن نعلم دوماً ما يفوتنا، وكم هو ممتع هذا الجديد، وما هي الأشياء والقيم التي كان من الممكن أن نحصل عليها لو فعلنا كذا عوضاً عن كذا، لو شاهدنا هذا قبل هذا، لو استخدمنا آبل عوضاً عن سامسونج، والخوف يأتي من صور وحكايات هؤلاء، الذين اختاروا ما لم نختره، هم سعداء ومنتجون، وبسبب خيارتنا التي بدت منطقيّة في لحظتها، نجد أنفسنا مُختلفين عنهم وأحياناً أقلّ قيمة.

هناك شكل آخر لهذا الخوف، ذلك الذي ينتاب المنغمسين جداً في الاستهلاك، أو الذين ينصاعون له مجبرين، ويعلمون أن هناك عالماً "أجمل"، ذا إيقاع أبطأ يتيح لهم وقتاً للتأمّل أو اللعب أو حتى التفكير، هم اللذين يرون في الحياة خارج فضاء الاستهلاك والاتصالات مساحةً للحريّة التي لا يمكن إدراكها إلا بترك كل شيء، هم نوستالجيون لزمن ينتمي إلى ما قبل خراب العالم الحاليّ و سمومه الماديّة والرمزيّة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard