شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قصة صراع مصالح شرس: حين دعمت أمريكا الوطنيين المغربيين ضد فرنسا

قصة صراع مصالح شرس: حين دعمت أمريكا الوطنيين المغربيين ضد فرنسا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 28 سبتمبر 201710:32 ص
في خضم الحرب العالمية الثانية، كانت فرنسا الكولونيالية التي تستعمر المغرب تعيش واحدة من أقسى أزماتها بعد احتلال ألمانيا النازية لها وقيامها بتنصيب حكومة فيشي الموالية لها. ظرف عصيب حاول الأمريكيون استغلاله لمحاولة تثبيت أقدامهم في المغرب ومشاكسة الفرنسيين في إحدى مناطق نفوذهم.

عملية استخباراتية ذكية

جرى توقيع اتفاقية ويكاند-مورفي بين أمريكا وفرنسا في فبراير 1941، وبموجبها حصلت الولايات المتحدة على حق الاستمرار في تصدير منتجاتها إلى البلدان المغاربية، وأصبحت المزود الحصري لهذه البلدان بـ: التبغ، الفحم، كبريت النحاس، بالإضافة إلى توزيع مساعدات مجانية من القمح والحليب والقطن. كما نص الاتفاق على أن ترسل الولايات المتحدة إلى هذه الدول مراقبين اقتصاديين عُرفوا بمساعدي القناصل بغرض الوقوف على سير توزيع هذه المواد والمساعدات والتأكد من عدم استفادة الخصوم منها. [caption id="attachment_122650" align="alignnone" width="700"]INSIDE_MoroccoUS4INSIDE_MoroccoUS4 فصائل أميركية في المحمدية في المغرب[/caption] لكن مع مرور الوقت، ظهر أن هؤلاء المراقبين لم يكونوا سوى غطاء لعملية استخباراتية لجهاز مكتب الاستخبارات، بهدف التحضير لعملية الإنزال الأمريكي في شمال إفريقيا. وجرى تكليف العميل كينيث بيندار Kenneth Pendar بإدارة هذه العملية. وهنا ستبدأ فصول قصة صراع مصالح فرنسي-أمريكي شرس داخل الأراضي المغربية وسيكون المجالان التجاري والاقتصادي إحدى جبهاته الرئيسية. شرع العملاء الأمريكيون بقيادة بيندار في دراسة الجغرافيا المغربية وتفقد الثروات الطبيعية وفي مقدمتها الفوسفات، وعملوا في الوقت نفسه على تقييم الوضع السياسي الداخلي والتعرف عليه أكثر من خلال محاولة التواصل مع السكان المحليين، وفي مقدمتهم رموز الحركة الوطنية، معوّضين بذلك النقص الحاصل بسبب قلة تواصل الديبلوماسيين الأمريكيين في طنجة والرباط مع المغاربة. ويظهر أن المغاربة بدأوا حينها يقتنعون بأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الأمريكيون في معركتهم ضد فرنسا الجريحة. فقد كانت هزيمة فرنسا في الحرب عاملاً نفسياً هاماً حرر الناس من عقدة الهزيمة والخوف وجعلهم يدركون أن فرنسا قد تخرج من الحرب بدون مستعمرات، كما يشرح المؤرخ الراحل عبد الكريم غلاب في مؤلفه "تاريخ الحركة الوطنية".
من صراع فرنسا وأمريكا بالمغرب: فرنسا تربط بين كوكاكولا والخنزير ورد الشركة بصورة السلطان وهو يشرب زجاجة
قصة صراع مصالح فرنسي-أمريكي شرس داخل الأراضي المغربية. حين دعمت أمريكا تطلعات الوطنيين المغربيين ضد فرنسا
نسج هؤلاء العملاء (مساعدو القناصلة) علاقات ودية مع عدد من رموز الحركة الوطنية. فالملحق العسكري الأمريكي بطنجة، الكولونيل بينتلي Bentley، على سبيل المثال، ظل دائم الاتصال بكل من محمد مكي الناصري وعبد الخالق الطوريس، الرمزين الوطنيين البارزين في المنطقة الشمالية، كما يؤكد دوغلاس آي أشفور في كتابه "التطورات السياسية في المغرب" الصادر سنة 1961. ولم تكن هذه التحركات الاستخباراتية للعملاء الأمريكيين على الأرض المغربية مزعجة للإدارة الفرنسية فحسب، بل تسببت بإحراج كبير حتى للديبلوماسيين الأمريكيين الذين كانوا يخشون كثيراً من أن تؤثر تحركات العسكريين على علاقاتهم مع فرنسا، بحسب ما كشف الباحث الأمريكي المتخصص في تاريخ شمال إفريقيا والشرق الأوسط دافيد ستاينر في عدد من كتاباته، ذاكراً في هذا الخصوص شكوى أرسلها رايفس شيلدز Rives Childes، المكلف بالشؤون الأمريكية في طنجة، إلى وزارة الخارجية.

الوطنيون والأمريكيون... تحالف براغماتي

بعد نهاية الحرب، قررضت مجموعة من هؤلاء العملاء العودة إلى المغرب وتأسيس مشاريع تجارية واستثمارية مستفيدةً من مناخ الازدهار الاقتصادي والضرائب المنخفضة بعد الحرب العالمية الثانية. تركزت هذه المشاريع أساساً في قطاعات التعدين والصناعات الثقيلة وتجارة الاستيراد والتصدير، بعد استغلال ثغرة قانونية جعلت أفراد هذه المجموعة متميّزين على المغاربة والفرنسيين. فبعد إبرام معاهدة الحماية بين سلطان المغرب عبد الحفيظ وفرنسا سنة 1912 للإشراف على المغرب، وبها تؤرخ بداية احتلال البلاد، كان الأمريكيون وحدهم مَن رفضوا التنازل عن حقوق مواطنيهم التجارية في الخارج والتي سبق أن اتفق عليها في القرن التاسع عشر. رفضوا أن يكون مواطنوهم خاضعين للقوانين الفرنسية، وبذلك لم يكونوا خاضعين للتشريعات التجارية لسلطات الحماية التي كانت تفرض قيوداً صارمة وقواعد على نيل رخص الاستثمار. ومن أجل الحصول على موطئ قدم في السوق المغربية، تعاون المستثمرون الأمريكيون مع بعض رجال الأعمال المحليين المساندين للحركة الوطنية ولحزب الاستقلال، الذي كان من أوائل الأحزاب القومية الوطنية التي طالبت بنهاية الاستعمار. بدأت فرنسا تتيقظ إلى خطورة النوايا الأمريكية الرامية إلى مزاحمة مصالحها في المغرب اقتصادياً، فعملت على تطبيق قوانينها للاستيراد والتصدير على جميع الأجانب الموجودين في المحمية المغربية ابتداء من سنة 1948، دون أن تستثني الأمريكيين. أثار ذلك غضب الرأسماليين الأمريكيين الذين شنوا حملة مناهضة لفرنسا في الولايات المتحدة، تزعمها روبيرت روديس، رئيس جمعية التجارة الأمريكية في المغرب. أدار روديس هذه الحملة من فندق الكونتيننتال في واشنطن محاولاً إقناع الحكومة الأمريكية بخطورة القوانين الفرنسية. وبهدف تعزيز الضغط على الحكومة الأمريكية اتهم روديس وزارة الخارجية الأمريكية بدعم الموقف الفرنسي في المغرب. وبحسب الباحث الأمريكي ستاينر، فإن روديس حظي بدعم "الفيدرالية الأمريكية للعمل" التي ساعدته من خلال تمويل بعض أنشطته على فضح تصرفات فرنسا الكولونيالية. وكتب روديس مقالات في عدد من الصحف انتقد فيها الإجراءات الفرنسية. [caption id="attachment_122647" align="alignnone" width="700"]INSIDE_MoroccoUS1INSIDE_MoroccoUS1 الرئيس الأميركي روزفيلت يزور الجنود الأمريكيين في الدار البيضاء، 1943[/caption] وفي هذه الأثناء سيفطن الوطنيون المغاربة إلى أن الوقت مناسب للإعلان عن تحالف براغماتي مع الرأسمالية الأمريكية، ذلك أن الإعفاءات التي كان يحظى بها الأمريكيون كانت تعتبر آخر المعاهدات المبرمة باستقلالية عن الحماية الفرنسية، والتي لا تزال سارية المفعول. كما أن من شأن وجود المستثمرين الأمريكيين على الأرض الأمريكية أن يعزز اهتمام الإدارة الأمريكية بالوضع في المغرب. لذلك ربط عدد من الوطنيين المغاربة العاملين في الولايات المتحدة الاتصال بروديس وروّجوا للحملة المناهضة لفرنسا عبر وسائل الإعلام ومن خلال المؤسسات الأمريكية الكبرى مثل الكونغرس. أصبحت تحركات روديس مقلقة جداً للفرنسيين، نظراً للتأثير الكبير الذي كان يمارسه في الأوساط الأمريكية، وسيتأكد الفرنسيون أكثر من قوة روديس حينما ستثمر حملته قراراً للكونغرس بوقف مساعدات ما عرف بـ"برنامج مارشال" بالنسبة لأي دول تخرق الاتفاقيات التي تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية جزءاً منها. سنة بعد ذلك، عام 1952، ستحدث معركة قضائية حول هذه القضية بين الأمريكيين والفرنسيين أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي التي ستقرّ بكون الاتفاقات المغربية الأمريكية الموقعة سابقاً لا تزال سارية المفعول.

كوكاكولا... مساندة للحركة الوطنية

كان وصول العلامة التجارية كوكاكولا إلى المغرب سنة 1947 مؤشراً هاماً على الدور الأمريكي في المغرب. إذ تكفل العميلان الاستخباريان السابقان كينيث بيندار وجيمس هول James Hall بالترويج لمنتجات الشركة مغربياً. INSIDE_MoroccoUS2INSIDE_MoroccoUS2 وهكذا جلس أربعة وطنيين مغاربة في مجلس إدارة الشركة المحلية، من بينهم شقيق السلطان محمد الخامس، الذي كان من المساهمين الرئيسيين. في هذا السياق، عمدت إدارة الحماية الفرنسية على ترويج إشاعة في إحدى الصحف الناطقة بالعربية والموالية لها مفادها أن المشروب يحتوي على مشتقات من لحم الخنزير، فتوقفت المبيعات تقريباً. لكن مديري الشركة تمكنوا من إقناع السلطان وابنه بتناول المشروب علناً لتبديد الشائعات فتمكنت كوكاكولا من استعادة ما أفقدته إياها المناورة الفرنسية، بل أصبحت الشركة المعلن الرئيسي لصحيفة "العلم" التابعة لحزب الاستقلال بداية من سنة 1948. في المقابل، عمدت السلطات الفرنسية إلى التضييق بشكل مستمر على الشركة من خلال تفتيش معاملها بشكل روتيني لاعتقادهم بأن بيندار وأمريكيين آخرين يزودون الوطنيين بالأسلحة.

الحركة الوطنية المغربية استفادت من دعمٍ أمريكي لعب دوراً هاماً في التخلص من وصاية الفرنسيين

ولأسباب ثقافية واقتصادية كان الفرنسيون يقفون ضد أية محاولة لانتشار كوكاكولا في فرنسا، غير أن رموز الشركة، وعلى رأسهم كينيث بيندار، استفادوا من علاقاتهم الواسعة مع السياسيين البارزين في واشنطن ونجحوا دائماً في ممارسة الضغط بشكل غير مباشر على الحكومة الفرنسية عبر الدعوة إلى معاملة الشركات الفرنسية في أمريكا بالمثل ومعاقبتها على سياساتها الاقتصادية. وبعد أن حاولت الحكومة الأمريكية التزام الحياد، اضطرت أخيراً للرضوخ للضغوط وقام السفير الأمريكي في باريس دافيد بروس بإخبار فرنسا أن بلاده ستتصدى لأي تمييز ضد منتجاتها، كما قدم احتجاجاً على التدخل الفرنسي في أنشطة معمل شركة كوكاكولا في المغرب وحذّر من "عواقب وخيمة" إذا ما استمرت هذه المضايقات. وكان جايمس هال، شريك كينيث بيندار، يقطن في طنجة وينظم باستمرار لقاءات بين عدد من رموز الحركة الوطنية المغربية مثل أحمد بلافريج والصحافيين الأجانب الذين كانوا يترددون على المدينة. أما بيندار، فظل ينشر كتابات في الصحف الوطنية لتأكيد روابط الصداقة التي تجمع الشركة الأمريكية بالتطلعات السياسية للشعب المغربي. وحينما عاد عبد الخالق الطوريس، أحد أعلام الحركة الوطنية في شمال المغرب، سنة 1952 إلى تطوان من منفاه، وهب بيندار زجاجات كوكاكولا إلى مناضلي حزب الإصلاح الوطني الذي أسسه الطوريس سنة 1936 والذين خصصوا له استقبالاً كبيراً. وقبل ذلك، سنة 1949، أثناء الاستعداد لاحتفالات عيد العرش، وزع مناضلون وطنيون تابعون لحزب الاستقلال ملصقات تعطي الانطباع بأن العائلة الملكية تنصح بشرب كوكاكولا، بل ونشرت صحيفة العلم إعلاناً سنة 1951 يظهر حجاجاً مغاربة في مكة يتناولون هذا المشروب الغازي الأمريكي. [caption id="attachment_122649" align="alignnone" width="700"]INSIDE_MoroccoUS3INSIDE_MoroccoUS3 حجاج في مكة يتناولون كوكا كولا في الناشونال جيوغرافيك 1953[/caption] واستمر بيندار في الوقت ذاته في دعم أنشطة الحركة الوطنية في أمريكا وسهل عملية تحويل الأموال من المغرب لتمويل أنشطة مكتب حزب الاستقلال في نيويورك وساعد في تقديم عدد من رموز الحركة الوطنية إلى شخصيات أمريكية مؤثرة. وجعلت أنشطة بيندار الداعمة لاستقلال المغرب الفرنسيين شبه متأكدين من أن هذه المهمة لم تكن سوى غطاء لعمله الاستخباراتي الحقيقي، وهو ما عبّر عنه المقيم العام في تلك الفترة الماريشال ألفونس جوان Alphonse Juin بوضوح بقوله في مذكراته: "نائب القنصل السابق الذي كان جزءاً من فريق عمل كولبيرت (موظف أميركي في شمال إفريقيا) قبل الإنزال... لا يبدو أنه كان يتكلف فقط بمهمات إدارة شركة كوكاكولا في شمال إفريقيا". ليس واضحاً إلى اللحظة ماذا كانت المحفزات والدوافع الحقيقية للأمريكيين، لكن المؤكد أن الحركة الوطنية المغربية استفادت سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من إسناد أمريكي لعب دوراً هاماً في التخلص من وصاية الفرنسيين. واستطاعت الحركة الوطنية استغلال هذا العامل الخارجي لصالحها مستفيدةً من تزايد الطموحات الأمريكية في المنطقة. وربما تكون التطمينات التي قدمها عدد من رموز الحركة الوطنية بوقوفهم في صف الغرب في سياق الحرب الباردة ورفضهم للانخراط في المد الشيوعي، بالإضافة إلى تعهدهم بأن يكون لليهود الحقوق والامتيازات نفسها التي للمسلمين في مغرب ما بعد الاستقلال، قد أسهمت في تطور الموقف الأمريكي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard