شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
​الفقية والسلطان... التوظيف السياسي للدين في عهد عبد الناصر

​الفقية والسلطان... التوظيف السياسي للدين في عهد عبد الناصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 25 سبتمبر 201712:04 م

مثّل الدين أحد الروافد الرئيسية لأنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، فمنه استمدت شرعيتها وشعبيتها وحصلت على سند معنوي يبرّر إجراءاتها السياسية، ويضمن لها التأييد. وبقدر ما تفاوتت سياساتها وانحيازاتها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الإقليمية، تبدل موقع الدين وصيغته الرسمية المعتمدة، وتفسيراته الرائجة والمقبولة، سواء خرجت من يمين السلطة أو يسارها. وعلى مدار التاريخ، كان الثابت الوحيد استمرار عملية التوظيف السياسي للدين. وبقدر ما حاول كل الحكام نفي هذه الممارسة عنهم كانوا يمارسونها بنفس الدرجة. تحمل الدعاية المضادة للنظام الناصري إدانة صريحة لكونه علمانياً ومعادياً للإسلام وطبق الإشتراكية الإلحادية. وقد روّجت أدبيات جماعة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي لذلك. فقد صرخ عبد القادر عودة أثناء محاكمته أن "الإسلام سجين".

وكانت أشد محن الجماعة في عهد عبد الناصر الذي شهد اعتقالات وتعذيب وإعدامات شملت أهم المفكرين الإسلاميين وعلى رأسهم سيد قطب. وتراوح آراء السياسيين والمؤرخين بين القول إن عبد الناصر لم يخلط الدين بالسياسة، وبين اعتبار أنه لم يقطع مع الدين، وإنما قدم رؤية تثويرية وتنويرية له، مثلما يقول المؤرخ المصري يونان لبيب رزق الذي برأيه، "استطاعت الناصرية بمهارة أن توظف الوجه المضيء والحقيقي للدين لخدمة مواطنيها، بدلاً من جعله أداة للإرهاب والقهر والتسلط". اعتمد عبد الناصر استراتيجية دينية تقوم على الاحتواء وتأميم المجال الديني، سعى من خلالها إلى بناء مشروعيته السياسية ومواجهة خصومة، سواء من الإخوان المسلمين في الداخل أو ما أسماهم بالرجعية العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج.

بعض الأنظمة التقدمية العربية وجدت في الدين عكازاً تتكئ عليها في تهدئة الجماهير العربية وتغطية العجز والفشل...
كيف استغل عبدالناصر الإسلام لبسط سلطته؟
فالدين بالنسبة له ليس أيدولوجيا سياسية مستقلة إنما هو عنصر أساسي في نظريته السياسية "القومية العربية"، وجزء من عملية التعبئة الجماهيرية ضد الإستعمار وإسرائيل، وبمثابة العمود الفقري الذي تنتصب عليه عملية التنمية الإجتماعية التي يقوم بها.

وأوضح الدكتور سامح إسماعيل، الباحث في العلوم السياسية وفلسفة التاريخ، لرصيف22 أن فكرة سيطرة الدولة على المجال الديني كانت في مخيلة جمال عبد الناصر منذ اللحظة الأولى، رغم كل ما يتبادر إلى الأذهان من وجود تناقض حاد بين التوجهات التقدمية للدولة العلمانية الإشتراكية والأيديولوجيا الدينية. وتابع أن أحداً لا يمكن أن يهمل الفعالية الوظيفية للدين في البنى السوسيولوجية، وكيف يمكن في حال السيطرة عليه أن يصبح أداة من أدوات السلطة السياسية. وبرأيه، كان التحدي هو القدرة على احتكار العمل في المجال الديني، والظهور بمظهر الحامي والمحافظ على منطلقاته الروحية والطقوسية دون أن يجرف ذلك الدولة والمجتمع إلى تبني ايديولوجية دينية تحكم باسم السماء، بل وتوظيف الدين في خدمة ايديولوجية يسارية مغايرة قد تبدو في كثير من أطرها النظرية على النقيض تماماً. وأضاف: "أوضح عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة"، وهو يحدد الدوائر الثلاث التي تنطلق من خلالها مصر إلى فضاءات التنمية والعدالة، الدائرة الإسلامية كمصدر إلهام روحي وتاريخي لها، وكان لا بد أن تمسك الدولة الناصرية بزمام الظاهرة الدينية كي لا تنفلت من بين أيديها قواعد اللعبة، وهو ما تسبب في تنحي شيخ الأزهر محمد الخضر حسين الذي أزعجته قبضة الدولة على المؤسسة الدينية الأكبر التي باتت مصدراً من مصادر سيطرة الدولة على حقل الدين.

وانتهى الصراع على السلطة بسحق حركة الإخوان المسلمين، أحد أبرز اللاعبين بورقة الدين في المجال السياسي، ومضت الدولة وحدها تمارس سلطة العمل في هذا السياق". ومن بين المظاهر والإجراءات التي دشنتها الدولة الناصرية في محاولة استدعاء الدين في المجال العام السياسي والاجتماعي، قام عبد ناصر بجمع المصحف مرتلاً، وترجمته لكل اللغات، كما أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وجعل الدين مادة إجبارية في المدارس، وتضاعف في عهده عدد المساجد، ونشط العمل في مجال جمع ونشر كتب التراث، فظهرت موسوعة جمال عبد الناصر للفقه.

وأسست مدينة البعوث الإسلامية ضمن خطة لتطوير التعليم الديني، وأغلقت بيوت الهوى وفرضت قيود على نوادي القمار، وأسست الدولة مقر الكاتدرائية المرقسية للاقباط، واحتفظ ناصر بعلاقات وطيدة مع البابا كيرلس السادس. فكانت الرمزية الدينية فاعلاً مهماً في تكريس صورة القائد الملهم الذي وقف على منبر الأزهر إبان العدوان الثلاثي يعلن مضيه قدماً في طريق المقاومة والقتال حتى النصر. استدعي عبد الناصر دور الأزهر في إطار ما يخدم رؤيته ويدعم توجهاته، فساندته المؤسسة الدينية الرسمية، التي دخلت دائرة الصراع السياسي المحتدم عام 1954، في ما عرف بأزمة الديمقراطية بين محمد نجيب وعبد الناصر. وخلالها أصدر شيخ الأزهر فتوى تقول إن "الزعيم الذي يتعاون ضد بلاده ويخذل مواطنيه فإن الشريعة تقرر تجريده من شرف الوطن".

وأعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر في بيان عام 1954 "انحراف هذه العصابة (تقصد جماعة الأخوان المسلمين) عن منهج القرآن في الدعوة". وجاء في البيان أنه "كان منهم من تآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها في الأمة إلا الله". كانت إحدى الخطوات التي تجاسر على تنفيذها عبد الناصر هي السيطرة على جامع الازهر عام 1961، حيث أقر قانوناً بإعادة الهيكلة وأصبح تعيين شيخ الأزهر في يد رئيس الجمهورية.

وثمة تغييرات أجراها على المناهج الدراسية الأزهرية ومحتواها، فأدخلت مواد حديثة وكليات جديدة تشمل كلية الطب والهندسة، وذلك بهدف تقويض النخبة الدينية واستقطابها دون التخلص منها كقوة اجتماعية. وقام بإلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد منظومة القضاء الوطني. كما قام بعض علماء الأزهر أمثال محمد بن فتح الله بدران وعبد المغني سعيد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، بالذهاب إلى السجون وإلقاء الخطب والمحاضرات ومناقشة معتقلي الأخوان في المسائل الخلافية، التي يعتبرون فيها النظام خارجاً عن الدين وتصحيحها لهم أو تبريرها. فقدم الشيخ السبكي دراسة يهاجم فيها كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، انتقد تجهيل قطب للمجتمع وتكفيره لهم حكاماً ومحكومين، واتهمه بأنه "متهوس وشبيه بإبليس ويقود الناس للمهالك ليظفر بأوهامه".

حقق الدين أغراضه كأحد الأسلحة النظرية التي اعتمد عليها النظام الناصري لتمرير سياساته وتمديد نفوذه الإقليمي خصوصا في الدائرة الإسلامية، لكن لم يكن المستهدف بالرغم من الطفرة الإجتماعية الإصلاحية التي شهدها المجتمع تعديل الفكر الديني وتقديم فهم مغاير لحقائق الدين يعتمد على العلم والمنهج العقلاني ويتوافق مع قيم الحداثة ودولة القانون ومبادئ حقوق الإنسان. فظل الدين قائماً لم يمسه تغيير في بنيته وخطابه سوى ما كان يسعي إليه مكتب الشؤون الدينية في الاتحاد الاشتراكي، بإعداد البحوث التي تطابق بين الإسلام والاشتراكية، وتنفي عنها تهمة الإلحاد، فضلاً عن اجتماعاته الأسبوعية بشيوخ وأئمة المساجد ورجال الوعظ الإسلامي والمسيحي والمثقفين، لتنظيم محاضرات وتوزيع نشرات تشرح المفاهيم التنموية والإشتراكية وحقوق العاملين في الإسلام والرد على معارضيها. فشريعة الله هي "شريعة العدل وهي شريعة المساواة، أما شريعة الرجعية فهي شريعة ضد الإسلام وضد الدين مهما تمسحت به"، والذي يريد أن يطبق الدين "لا يقسم الشعب إلى أسياد وشعب من العبيد. ده هو الكفر"، كما ردد عبد الناصر في أحد خطاباته عام 1961. وفي هجومه على ملك السعودية قال: "بتطلع تقول لهم دي الاشتراكية ضد الدين، هم الناس مغفلين، الاشتراكية تكافؤ الفرص، والاشتراكية مساواة ما فيش أمير ولا فيش غفير، لا صاحب سمو ولا صاحب جلالة ولا فيش واحد بذقن ولا واحد مالوش، الاشتراكية ازاي تبقى ضد الدين إذا كنتوا يا أصحاب الدقون قايمين تتاجروا بالدين؟".

ويعد المفكر الماركسي أحمد عباس صالح من بين المثقفين الذي اعتمد عليهم عبد الناصر في محاولة تطويع نصوص الإسلام التي تدعم فكرة العدالة الإجتماعية وتبرز الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي، على أساس أن الرسالة المحمدية جاءت كضرورة لتأزم الوضع الإجتماعي وانسدادته التاريخية، وحل التناقض الطبقي وإعادة توزيع الثروة وتمكين المستضعفين في الأرض، وجرى الاستشهاد بتعبير الصحابي أبو ذر الغفاري الذي قال أن الناس شركاء في ثلاث "الماء والكلأ والنار".

وضع عباس صالح كتاباً بعنوان "اليمين واليسار في الإسلام"، اعتمد منهج التحليل الطبقي في عرض فصول التاريخ الإسلامي، وهدف من خلاله إلى "البحث عن النسب الحقيقي للثورة العربية الطليعية التي بدأت في مصر عام 1952، والتي تشير إلى انطلاق حضاري جديد واسع المدى"، إذ يؤكد أن "الدعوة الإسلامية لم تكن مجرد نحلة من النحل ولم تكن دعوة لنبذ الأصنام أو الاتجاه إلى التوحيد بل هي إلى جانب ذلك ثورة اجتماعية توفرت لها كل أسباب الثورة". لكن ثمة منحى آخر يبرزه أحد خطابات عبد الناصر عام 1962، والذي يكشف عن وعي سطحي أو ربما خطاب شعبوي للعلاقة بين الدين والماركسية، يحصرها في نظرية الحادية أتباعها ينكرون الدين والرسل، وكأنه لا يتخطي التعريف الذي يروجه خصومه فيقع ضحية خطابهم ويتبنى مقولاتهم الشائعة والساذجة، ولايقطع الحبل السري بينه وبين الدين، الذي يبقي مرجعية سياسية وسلاح تكفير أو إيمان، يرسخه لدى المواطنين الذين يركن وعيهم إلى معاداة هذه النظرية التي تستفز إيمانهم وتحول بينهم وبين الله. فيقول عبد الناصر: "الفرق الأول بيننا وبين الشيوعية هو ان احنا نؤمن بالدين وأن الماركسية تنكر الدين، وان احنا نؤمن بالرسل، والماركسية تنكر الرسل، أن الشيوعية تنكر الأديان، وتعتبرها أفيون الشعوب، واحنا بنؤمن بالله وحطينا ده ضمن المبادىء الأساسية، اعتبار الإيمان إيمان بالله لا يتزعزع". ولكن في كل حال، كشفت هزيمة 1967 فشل عملية التحديث المحدود والجزئي الذي شمل عدة أنشطة وقطاعات، مثل زيادة عدد انشاء المدارس والمصانع، فالعناصر الجوهرية للدولة القديمة المتخلفة ظلت متماسكة لم يمسها جوهر التغيير، وظلت قيم الدولة الحديثة من المجتمع المدني وسيادة القانون والعلمانية والمواطنة غائبة ومغيبة عمداً.

ولم يكن النظام، في ظل تطبيقات ما عرف بالاشتراكية الناصرية، يهدف إلى تغييرات ثورية في بنية النظام الطبقي والإجتماعي المصري، ويدشن لوعي جديد قادر على استقبال تداعيات التغيير ويمتلك أدواته المعرفية وقيمه السياسية والإقتصادية الجديدة. فكان نظام يوليو نفسه غير مؤهل لهذا المخاض بأي صورة ولا يملك آلياته وإنتاج كادر حداثي يصبح عضواً في الحضارة الحديثة بقيمها وإنتاجها المادي والعلمي. وفي خضم هذه الأحداث والعوامل تكونت الحاضنة الأولى للمد الديني الإسلامي الذي شهدته مصر في سبعينيات القرن الماضي، من أحداث الفتنة الطائفية، وانتشار الحجاب بين الفتيات، وعدم الإختلاط بين الجنسين، ومنع الأنشطة الأدبية والفنية في الجامعات، ومن ثم سقطت شعارات النظام وتهاوت دعايته السياسية وقدم الإسلام السياسي نفسه بديلاً منافساً لما زعم أنهما سببا الهزيمة سواء الاشتراكية الملحدة أو القومية العربية.

وداخل هذه الصورة الملتبسة التي يتردد فيها موقع الدين بين عدة مواقع وأدوار تبدو متناقضة، يتكشف أن الإستخدام النفعي للدين يحصر الذهنية الدينية داخل الأساطير والإيمان بالغيبيات والحلول العجائبية، مهما بدا ثورياً وتقدمياً. وبصورة أوضح يقول المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني": "بعض الأنظمة التقدمية العربية وجدت في الدين عكازاً تتكئ عليها في تهدئة الجماهير العربية وتغطية العجز والفشل الذي كشفته الهزيمة عن طريق مماشاة التفسيرات الروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية". ومن الأحداث التي رافقت الهزيمة كانت حادثة تجلي العذراء فوق إحدى كنائس ضاحية الزيتون عام 1968، والتي تبنتها وسائل الإعلام وروجت لها الصحافة باعتبارها ذات مغزى سياسي، وقالت الكنيسة في بيان: "سيكون هذا في نصرتنا لكي ترتفع الروح المعنوية لأن العذراء يحزنها ما جرى وهذا الظهور إشارة من السماء على أن الله لا يرضى عما يحدث في القدس وأن النصرة ستكون لنا بإذن الله". واعتبر العظم أن ذلك هو إحدى المناورات التي استخدمتها الدولة "لتصفية آثار العدوان". ووصف مؤلف "النقد الذاتي بعد الهزيمة" مأسوية هذا الحال بقوله إن تصوير الأطياف الروحانية وربط تحرير القدس والصمود في وجه العدو بظهور العذراء تجيء على لسان أجهزة إعلام بلد يعتبر نفسه ثورياً اشتراكياً كان يجب أن يضع إمكاناته الإعلامية في خدمة الشعب بغية تثقيفه لا بغية تضليله والشطط في متاهات الهلوسات الدينية وتزيين الخرافات بمظهر الحقائق العلمية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard