شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
إردوغان... سقوط الوهم

إردوغان... سقوط الوهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 10 يونيو 201609:35 م

طرقات الشرطة في 17 من ديسمبر الماضي على أبواب أبناء وزراء أتراك، ورجال أعمال متنفذين ومقربين من السلطة لم تهز الحزب الحاكم فقط، بل حطمت وهم النموذج التركي الذي ظنه البعض في منطقتنا العربية قدوة يحتذى في النجاح الاقتصادي والمزاوجة الفريدة بين حزب إسلامي ونظام ديمقراطي علماني.

فبعد عقود من الفساد وسوء الإدارة، تمتعت تركيا بعقد من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي تحت حكم رجب طيب إردوغان الذي فاز بالانتخابات في ثلاث دورات متتالية تحت شعاره الشهير في مكافحة “الفساد، والفقر، والقيود على الحريات”. ولكن جاءت فضائح الفساد الأخيرة لتضرب تجربة الإسلام السياسي الأنجح في المنطقة، عبر سلب حزب العدالة والتنمية أعز ما يملك، أو ما كان يدعي أنه يملكه: النزاهة ونظافة اليد.

بناء على تحقيقات حول تهم بغسيل أموال، وتقاضي رشى من قبل مسؤولين حكوميين، وتزوير مناقصات حكومية، وتهريب الذهب إلى إيران، داهمت قوات الأمن التركية مقرات عدد من كبار رجال الأعمال وأبناء الوزراء والمسؤولين، واعتقلت العشرات وفي مقدمتهم أبناء وزير الداخلية معمر غولار، ووزير الاقتصاد ظفر تشاغليان، ووزير البيئة والتخطيط العمراني اردوغان بيرقدار، وعمدة حي الفاتح في اسطنبول مصطفى دمير، وصاحب مجموعة شركات آغا أوغلو علي آغا أوغلو، وسليمان أصلان المدير العام لبنك خلق، ثاني أكبر بنك حكومي، ورجل الأعمال الإيراني الأذربيجاني رضا ضراب.

في منزل سليمان أصلان وجدت الشرطة 4.5 مليون دولار في علب أحذية، قال عنها أصلان إنه كان ينوي التبرع بها لبناء مدارس إسلامية في تركيا ومقدونيا. وفي منزل ابن وزير الداخلية، وجدت الشرطة آلة لعد النقود.

تحت وطء الفضيحة، اضطر إردوغان لأن يقبل استقالة وزرائه وقام بتغيير حكومي واسع. لكنه استمر يدافع عن أداء حكومته واتهم بشكل غير مباشر حركة غولن الإسلامية، حليفته السابقة والتي تحظى بنفوذ قوي في أوساط دوائر الشرطة والادعاء العام، بأنها تتآمر على تركيا ورفاهيتها. وبناء عليه قامت الحكومة بنقل خمسة من قادة الشرطة الذين ساهموا في التحقيقات من أماكن عملهم، بالإضافة إلى مئات من قادة وضباط الشرطة في مدن تركية عدة.

تأتي كل هذه التحركات في إطار تعامل حزب العدالة والتنمية مع الفضيحة على أنها حرب معلنة بينه وبين حركة غولن، وهو ما عبر عنه إردوغان بقوله: "من الواضح أن هدف عمليات مكافحة الكسب غير المشروع هو اغتيال الإرادة الوطنية لتركيا"، مشيراً إلى أن هذه العمليات التي بدأت في السابع عشر من الشهر الماضي كانت لها جوانب مختلفة ولم تكن عملية قانونية عادية. وقال "إننا ملتزمون بالقانون حتى إذا كان نجلي هو الذي تثار حوله الشكوك. غير أنه من الواضح أن الهدف ليس تحقيقاً بشأن الفساد".

ما الذي كان يعرفه إردوغان، ومتى؟

يطلعنا تقرير نشر مؤخراً على موقع t24.com.tr ونقلت جريدة الزمان التركية ترجمة إنجليزية لمحتواه على حقيقة أن جهاز الأمن الوطني كان قد أرسل في الثامن عشر من إبريل الماضي تحذيراً إلى إردوغان عن ممارسات رجل الأعمال الإيراني، رضا ضراب، وعلاقته المشبوهة بكل من وزيري الداخلية والاقتصاد اللذين استقالا عقب الفضيحة. ويورد التقرير تفاصيل عن الاتصالات الهاتفية بين رجل الأعمال ووزير الداخلية التي يتفقان فيها على منح أخيه الجنسية التركية وذلك في الثاني عشر من الشهر نفسه. حذر الجهاز إردوغان من أن تسرب هكذا قضايا للإعلام سيكون لها وقع خطير، إلا أن السؤال المحير هو لماذا لم يفعل إردوغان ما كان يتوجب عليه فعله آنذاك؟ ولماذا سكت حتى تفجرت الفضيحة ودفع هو وحزبه الثمن؟ ولماذا مضى قدماً ووقع هو وأفراد حكومته بالموافقة على طلبات جنسية لضراب وأبيه وأخيه وعدد من أقاربه، بعد أن دفع 5 ملايين دولار إلى أعضاء في الحكومة؟

من هي غولن Hizmet؟

تعد حركة غولن الإسلامية (أو Hizmet بمعنى الخدمة) من أكثر الحركات الإسلامية نفوذاً في تركيا، فهي تمتلك مئات المدارس الخاصة في أنحاء البلاد، ولها استثمارات عديدة في قطاعات المال والصحة والإعلام، ولها أنصار عديدون في مفاصل هامة في الدولة، مثل الشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي، وكانت في السابق حليفاً قوياً لحزب العدالة والتنمية. لكن العلاقة بين غولن والعدالة بدأت تتجه نحو فتور تحول إلى عداء بسبب خلاف الحركة مع سياسات إردوغان بدءاً من حادثة السفينة مرمرة والتي انتقدت فيها الحركة دور الحكومة التركية، إضافة إلى نقدها لسياسة إردوغان في سوريا، وموقفه من التغيير الأخير في مصر. إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانتنية الحكومة حظر بعض المدارس التي تمتلكها حركة غولن وتعتبر الرئة المالية لها ومصدر نفوذها الرئيس في البلاد.

ظهرت حدة الخلافات بين الطرفين جلية في دعم الحركة لاحتجاجات "جيزي" في العام الماضي. وفيما ينفي مؤسس الحركة، فتح الله غولن المقيم في منفاه الاختياري في بنسلفانيا في أمريكا، تلك الاتهامات إلا أن الشعور التركي العام يعلم أن ما يحدث هو صراع فعلي بين دولة أمنية وقضائية تحركها حركة غولن اختارت أن تفضح ملفات فساد لخدمة أغراضها في صراع السلطة والنفوذ.

إن فيما يقوله إردوغان جزءاً من الحقيقة، وهو أن الموضوع تم إشعاله لأغراض سياسية، وأن هناك شبه دولة داخل تركيا، ولكن تهم الفساد ليست بلا أساس، فالشواهد والقرائن التي تجمعت في التحقيقات، واستقالة الوزراء الثلاثة، ورد الفعل المنفعل لإردوغان في طرده للعديد من قادة الشرطة المشرفين على التحقيقات، وسحب الملف من المدعي العام، إشارات واضحة على محاولة لإجهاض التحقيقات ومنعها من أن تصل إلى أحكام نهائية قد تكون لها نتائج كارثية على الحزب الحاكم. بل وصل الأمر مؤخراً إلى تهديد صريح من قبل مبعوثين من إردوغان إلى المدعي العام التركي في إسطنبول، زكريا أوز، حسب ما أوردته صحيفة الزمان واسعة الانتشار والتي تنطق بلسان غولن. نقلت الصحيفة عن المدعي العام قوله إنه التقى بمبعوثين قضائيين أرسلهم إردوغان طالبوه في الاجتماع الذي عقد في فندق في منطقة بورصة بأن يوقف التحقيقات الحالية ويعتذر خطياً لرئيس الوزراء أو يواجه عواقب وخيمة في حال رفضه.

فساد النخبة

يؤكد الدكتور كريم أوكتم  في معرض رده على أسئلة رصيف 22، أن "ما يتكشف أمامنا هو عملية فساد منهجية. فالنخبة المحيطة بحزب العدالة والتنمية قد استفادت من عمليات البناء الضخمة بسبب التغييرات والتهاون في تطبيق قوانين منح التراخيص. نحن نفهم من رسالة استقالة وزير التخطيط العمراني أن إردوغان شخصياً هو من أجاز تراخيص البناء، وخصوصاً في اسطنبول، على أراض كانت مخصصة لأغراض مختلفة". ويقول الدكتور أوكتم إن التغييرات العديدة التي طالت القوانين المنظمة لمنح التراخيص أعطت الوزارات صلاحيات واسعة وجعلت من شبه المستحيل أن تكون هناك رقابة عامة على منهجية إعطاء المناقصات.

يبدو هذا واضحاً في الوجبة الثانية من المطلوبين للتحقيق من مكتب الادعاء العام بتهم تشمل: "تأسيس شبكة إجرامية، الرشوة وشراء النفوذ، تزوير المناقصات، تزوير مستندات رسمية، غسيل أموال تم تحصيلها بطرق غير قانونية، وتهديد الغير"، وطالت رجال أعمال من الطبقة الأولى ومن المقربين من حزب العدالة والتنمية، ومن ضمنهم  محمد جنكيز صاحب شركات جنكيز، ونهاد أوزدمير صاحب مجموعة ليماك، وكلاهما ضمن المجموعة التي فازت بعقد بناء المطار الثالث في اسطنبول، وياسين القاضي، الملياردير السعودي الذي اتهم في الماضي بتمويل القاعدة. ولكن قبل أن يتم تنفيذ مذكرات الضبط والإحضار هذه تم سحب القضية من المدعي العام، معمر أكاس.

بلال إردوغان

هو النجل الثاني لرئيس الوزراء، وقد ورد اسمه ضمن قوائم المطلوب استدعاؤهم للتحقيقات. وتداولت وسائل الإعلام التركية تفاصيل لقائه برجل الأعمال السعودي المثير للجدل، ياسين القاضي، والذي لا يزال اسمه موضوعاً على قوائم المراقبة من قبل وزارة الخزانة الأميركية لشبهة تمويل القاعدة. أوردت وسائل الإعلام تفاصيل عن دخول القاضي إلى تركيا رغم وجوده على القائمة السوداء، وتحدثت هذه التقارير عن حادث سير مروري أصاب القاضي بجروح دخل على إثرها مستشفى وكان بصحبته أحد أقرباء رجل الأعمال المصري- التركي، محمد قطب (إبن أخ الزعيم الإخواني الشهير سيد قطب وأحد المطلوبين في التحقيقات أيضاً) وكبير مرافقي رئيس الوزراء التركي واسمه (ابراهيم يلدز) . هرع بلال إلى المستشفى للاطمئنان على القاضي وتم بعد ذلك سحب كافة الأوراق الرسمية التي تشير إلى الحادث وملابساته.

مظاهرة ضد الفساد السياسي

قدم مؤخراً نائبان من المعارضة التركية استجوابين لإردوغان حول حقيقة لقاء بلال بالقاضي، وما إذا كان بلال قد توسط كما أشيع في صفقة كان من المزمع عقدها ولم تتم، تتضمن بيع عقار عام يعود لكلية الشرطة في منطقة إتيلر في اسطنبول تبلغ قيمته السوقية مليار دولار، وكان من المفترض أن يباع بدون غطاء علني إلى مستثمرين من القطاع الخاص، ضمنهم ياسين القاضي، بـ 460 مليون دولار. وبموجب القانون فإن إردوغان ملزم بأن يرسل رده على الاستجوابين خلال مدة أقصاها شهر واحد. إن علاقة إردوغان الأب بياسين القاضي تعود إلى سنوات عديدة، فقد دافع عنه في مقابلة تلفزيونية عام 2006 ضد تهم الإرهاب بقوله "إنه رجل خير ومحب لتركيا". وفقاً لمجلة فوربس فقد استعمل القاضي علاقته الخاصة بإردوغان للتحايل على  عقوبات الأمم المتحدة.

ماذا بعد؟

تتلاحق التطورات في هذه الفضيحة يوماً بعد آخر، وتتكشف فصول جديدة في هذه الحرب المستعرة على النفوذ بين إردوغان وغولن، مما حمل الاقتصاد التركي خسائر تصل لمئة مليار دولار حتى الآن. وإضافة لهذا فقد عبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه بسبب محاولات الحكومة المستميتة وأد التحقيقات في مهدها عن طريق الضغط على أجهزة الشرطة والقضاء، مما دعا الأوروبيين إلى الطلب علناً من تركيا أن تضمن شفافية ونزاهة التحقيقات.

نحن هنا أمام صورة حقيقية لإردوغان نفضت عنها رياح الفضيحة كل مساحيق التجميل التي سوقت للنموذج التركي كحل وطريق للمستقبل للعديد من الدول العربية التي بهرها النجاح الاقتصادي التركي والاستقرار السياسي وتعاظم الدور الإقليمي. اكتشفت بعد كل هذا أن ما شهدته هو إنجاز اقتصادي مثلوم تم إنجازه على حساب الشفافية والنزاهة التي كانت ضمن شعارات الحزب الانتخابية.

يعلق الدكتور أوكتم على هذه النقطة بقوله "إن الافتراض بوجود نموذج تركي غير منطقي من أساسه. فتركيا لم تتمكن حتى الآن من حل كثير من مشكلاتها بعد عشر سنوات من الاستقرار السياسي. يمكننا أن نقول إن حزب العدالة والتنمية في السنوات الخمس الأولى من حكمه كان أقل فساداً ممن سبقوه، ولكن ما يتكشف الآن يبدو وكأنه صورة من المحسوبية الرأسمالية والنظام الشمولي المنتشر فعلياً في الشرق الأوسط".

منصرو إردوغان

شرح للصورة

تظاهرات

في حوار مع صديق تركي حول رد فعل الشارع التركي على هذه الهزة السياسية الضخمة، وتوقعات الخبراء بأن إردوغان ما يزال بعيداً عن السقوط، قال "إن الفساد في تركيا، كما هو في الشرق الأوسط عموماً، حالة معتادة في عالم السياسة والأعمال، ولهذا فإن لسان حال المواطن التركي يقول إن أسلاف إردوغان كانوا غارقين في الفساد ولم ينجزوا شيئاً للبلد، في الوقت الذي نقر فيه جميعاً بإنجازات إردوغان الاقتصادية الملموسة، فما الضير في أن تشهد حكومته بعض الفساد".

حسب كل المؤشرات فإن حزب العدالة والتنمية سيتراجع ولكنه لن يسقط سياسياً، إضافة بالطبع لأسباب أخرى منها أن خصومه التقليديين أضعف من أن يسقطوه وأكثر فساداً من أن يدعوا الفضيلة. ولكن في الوقت نفسه، فإن الحرب الشعواء التي يخوضها إردوغان على جبهتي المعارضة اليمينية والمعارضة الإسلامية ستنهكه في آخر المطاف، وربما نرى إردوغان عندها أكثر مرونة وأقل صدامية في التعامل مع المعارضة، وقد نرى تغييراً في عمل الحكومة يسمح بمزيد من الشفافية والمحاسبة. لم يبق لإردوغان الآن سوى تكرار الحديث عن نجاحاته الاقتصادية، فهو جلّ ما تبقى له من تجربته في الحكم، أما شعاراته الأخرى فيبدو أن رياح الشتاء القاسية قد ذرتها بعيداً.

* باحث في كلية سانت أنتوني - جامعة أوكسفورد، وباحث حالياً في مركز اسطنبول للسياسات - IPC


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard