شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حرب الفقراء في جنوب السودان

حرب الفقراء في جنوب السودان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 11 أغسطس 201605:19 م

قتلى يسقطون بسبب انتمائهم الإثني. مقابر جماعية. آلاف القتلى وأكثر من مئة ألف مشرّد. كل هذا حصل في أقل من عشرة أيام في دولة جنوب السودان، أحدث دول العالم!

جوبا وأخواتها

كل شيء بدأ، مساء الخامس عشر من الشهر الحالي، من عاصمة جنوب السودان، جوبا. في بعض المعسكرات، نشبت اشتباكات بين جنود مؤيدين للرئيس سيلفا كير ميارديت وبين آخرين موالين لنائب الرئيس السابق ريك مشار. الرئيس اتهم نائبه السابق بتنفيذ محاولة انقلاب عليه. "كانت هناك محاولة انقلاب، ولكنها أحبطت ونحن نسيطر على الوضع، المهاجمون لاذوا بالفرار ونحن نلاحقهم"، قال. لم يُحبط شيئاً. الصراع السياسي ـ القبلي خرج من الثكنات العسكرية وتوسع ليطال المدنيين. فخلف ما أسماه كير "محاولة انقلاب" تتضافر عوامل سياسية وعوامل قبلية أهمها النزاع الإثني بين قبيلتي الدينكا، كبرى قبائل البلاد والتي ينتمي إليها كير وبين قبيلة النوير، ثاني قبائل البلاد من حيث العدد والتي ينتمي إليها مشار.

استطاعت القوات الحكومية السيطرة على الوضع في جوبا. ولكن المعارك انتقلت إلى أماكن أخرى من البلاد. في ولاية جونقلي، انشق الجنرال بيتر قديت وسيطر على مدينة بور، عاصمة الولاية التي كانت قد شهدت، عام 1991، مذبحة ارتكبها مسلحو النوير ضد أبناء قبيلة الدينكا وأودت بحياة 2000 شخص على الأقل. قال قديت ياك: "أريد أن يعرف جنوب السودان أن قواتي ليست متمردة وتقاتل ضد القيادة الديكتاتورية لسيلفا كير ميارديت وعصابات (ولاية) واراب، الذين يقاتلون على أسس قبلية". في بلدة أكوبو، قُتل جنديان أمميان هنديان و11 شخصاً على الأقل من قبيلة الدينكا في هجوم شنه مقاتلو النوير على قاعدة لقوات حفظ السلام كان قد التجأ إليها بعض السكان. لم تدم سيطرة قوات مشار على بور أكثر من أسبوع إذ نجح جيش جنوب السودان في استعادتها.

وصلت الاشتباكات إلى ولاية الوحدة النفطية، مسقط رأس مشار. انشق قائد الفرقة الرابعة في الجيش الشعبي، جون كوانغ وانضم إلى قوات مشار، فآلت السيطرة على بنتيو، عاصمة الولاية إلى الأخير. بحسب مصادر الحكومة لم تصل قوات مشار إلى حقول النفط في الولاية. ولكن توقف الإنتاج في بعض الحقول فالشركات النفطية أبعدت موظفيها خوفاً من الهجوم عليهم.

وفي ولاية أعالي النيل، سيطرت قوات مشار على بعض المقاطعات، ودارت اشتباكات داخل مقر القيادة العسكرية للجيش الشعبي في العاصمة ملكال. كذلك، دارت معارك أخرى في مدينة توريت عاصمة ولاية شرق الاستوائية.

بحسب مصادر مشار، فإن قواته نجحت في السيطرة على معظم أنحاء البلاد المؤلفة من 10 ولايات. ولكن بحسب مصادر الحكومة، تنحصر الاشتباكات في ولايتي الوحدة وجونغلي فقط. أياً تكن الحال، فإن السيطرة على ولايتي أعالي النيل والوحدة ستحدّد مستقبل الصراع لأن هذه الولايات تحتضن الثروة النفطية الضرورية لتمويل صراع طويل الأمد.

حرب الفقراء في جنوب السودان - صورة 2

كارثة إنسانية

في جوبا، نقلت حوالي 500 جثة إلى المستشفيات ولجأ ما بين 15 و20 ألف مدني إلى قواعد تابعة للأمم المتحدة هرباً من المعارك، بحسب مساعد الأمين العام لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إيرفيه لادسو. "لقد تلقينا معلومات تشير إلى سقوط قتلى مدنيين في جوبا بسبب انتمائهم الإثني"، قالت مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الانسان نافي بيلاي. بحسب أحد الناجين، اقتيد حوالي 250 معتقلاً ينتمون إلى قبيلة النوير إلى مركز للشرطة حيث أطلقت عليهم قوات الرئيس كير النار. أحد عناصر الحرس الرئاسي، وهو ينتمي إلى النوير وفرّ من معسكره خوفاً من زملائه والتجأ إلى قاعدة للأمم المتحدة في جوبا، تحدث عن عمليات قتل واغتصاب جماعية، كما أشار إلى عمليات توزيع أسلحة على ميليشيات من شبان الدينكا. روى أن أي شخص لا يجيب على السؤال "اين شولي" (ما اسمك؟، بلغة الدينكا) يسحب من منزله ويقتل.

في بنيتو، تحدث مسؤول محلي عن سقوط مئات القتلى. وقالت المتحدثة باسم المفوضة العليا في الأمم المتحدة المكلفة شؤون حقوق الإنسان، رافينا شمدساني، إنّه تم العثور على جثث في مقبرتين جماعيتين تحتوي إحداهما على 14 جثة وتحتوي الثانية على 20 جثة. هؤلاء الضحايا ينتمون إلى الدينكا. وفي بور، تُنفذ عمليات إعدام بدون محاكمات.

بالمحصّلة، لفت رئيس البعثة الإنسانية للأمم المتحدة في جنوب السودان توبي لانزر إلى أن آلافاً من السودانيين الجنوبيين قتلوا في أسبوع من المواجهات العنيفة وقال: "ليس هناك أدنى شك بالنسبة لي أنّ الحصيلة بلغت آلاف القتلى". لانزر أشار إلى أن "تسعين ألف شخص على الأقل نزحوا منذ عشرة أيام، بينهم 58 ألفاً لجؤوا إلى قواعد الأمم المتحدة".

خلفيات الصراع

ما هي خلفيات الصراع القريبة؟ قبل تسعة أيام من بدء الاشتباكات، شنّ ريك مشار هجوماً شديداً على سيلفا كير واتهمه بالسعي إلى "خلق جيشه الخاص، على غرار الحرس الجمهوري، ومن عرقية محددة". انتقد مشار "ديكتاتورية" كير واستبعاده قيادات تاريخية في الحركة الشعبية لتحرير السودان (الحزب الحاكم) ناضلت لأكثر من 22 سنة، وأضاف: "كير هو الحاكم الأوحد. يحكم مستعيناً بمجموعة صغيرة من المستشارين، ينتمون إلى إثنيته، وبرجال أعمال انتهازيين".

لم يكن الهجوم وليد صدفة. في أبريل، سحب سيلفا كير الصلاحيات التنفيذية الممنوحة لنائبه مشار من دون أن يجرده من منصبه. وفى يوليو، قرر إقالته وأجرى تعديلات حكومية وحزبية أقصى بموجبها باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية وكبير مفاوضى جنوب السودان، ودينق ألور، وزير شؤون مجلس الوزراء وعضو المكتب السياسي، وربيكا قرنق، أرملة زعيم الحركة الراحل جون قرنق، وتعبان دينق، حاكم ولاية الوحدة المقال وآخرين. إدعى كير أن التعديلات هي جزء من إجراءات لمكافحة الفساد بينما اعتبر معارضوه أنها ليست سوى خطوات تهدف إلى تصفية معارضيه تمهيداً لإعادة انتخابه عام 2015. لم يكتف كير بذلك. أصدر قراراً قضى بحل هياكل الحركة الشعبية، بحجّة أنها صارت فاقدة للشرعية بعد تعذر عقد المؤتمر العام للحركة والذي كان يجب أن يعقد في مايو. ببساطة، قام كير بإقصاء خصومه وتفرّد بالحكم.

بخطواته تلك، استعدى كير كلاً من مشار ومن المجموعة التي تعرف باسم "أبناء قرنق" (نسبة إلى زعيم الحركة الشعبية جون قرنق الذي قتل عام 2005) والتي يقودها أموم. لا شك أن كير كان يعرف حساسيّة هذه الخطوات ولكنه أراد إقصاء منافسيه في الحركة. التنافس بين الطرفين قديم. ففي العام 2008، قرر مشار وأموم منافسة كير على زعامة الحركة. حينها كان معروفاً أن الفائز في قيادة الحركة سيصير أول رئيس لجمهورية جنوب السودان بعد الاستقلال لأن النظام الداخلي للحركة ينص على أن قائدها هو مرشحها للرئاسة. تدخّل الوسطاء وأقنعوا المتنافسين بالإبقاء على وحدتهم في مواجهة السودان وبالقبول بزعامة كير.

في اجتماع لقيادات الحركة، في 15 ديسمبر، تبادل كير الاتهامات مع خصومه وبشكل خاص مع مشار وأموم. في اليوم نفسه بدأت الاشتباكات في جوبا. فور بدء الاشتباكات، أمر كير باعتقال 11 شخصية قيادية هم نفسهم معارضوه. نجح مشار في الفرار والتحق بالقوات العسكرية المؤيدة له. بدأت المعارك.

حرب الفقراء في جنوب السودان - صورة 1

مستقبل الصراع

الاشتباكات التي حصلت إلى الآن وقعت بين قوات تنتمي إلى قبائل الدينكا وأخرى تنتمي إلى النوير. ولكن خصوم كير ليسوا فقط من النوير فبينهم قيادات تنتمي إلى قبيلة الشلك (أموم) وأخرى تنتمي إلى قبيلة الدينكا نفسها (أرملة قرنق وألور).

يستفيد مشار من انتمائه القبلي في حشد أبناء النوير إلى جانبه. أبناء قبيلته يعتبرونه قائداً تحدثت أساطيرهم عن ظهوره. للصراع بين النوير والدينكا تاريخ طويل. ففي العام 1991، انشق مشار عن "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وقاتل الحركة، بالتحالف مع الخرطوم في بعض المراحل، قبل أن يتراجع ويعود إلى حضنها في العام 2001. عودته إلى الحركة الشعبية سهلها وجود قائد كبير هو جون قرنق فضّل ضم القبيلتين الكبيرتين في الصراع ضد الخرطوم. منذ وفاة قرنق، عام 2005، لم تنتج الحركة شخصية كقرنق يُجمع الجميع على زعامتها. في حياته، استطاع قرنق التوفيق بين الرغبات المختلفة ومنها رغبة سيلفا كير بقيادة الحركة وخلافاته مع القياديين الآخرين.

ماذا الآن؟ سيلفا كير يتحدث عن انقلاب. مشار ينفي ويقول: "لم يكن هناك انقلاب... ما كنا نريده هو العمل ديموقراطياً على تغيير الحركة الشعبية، لكن سيلفا كير يريد استخدام محاولة الانقلاب المزعومة من أجل التخلص منا والسيطرة على الحكومة والحركة الشعبية". مبيور قرنق، إبن جون قرنق، اعتبر أن ما يجري هو "مسرحية" من تدبير الرئيس يهدف منها إلى "إزاحة خصومه السياسيين وتعطيل الحريات".

الرئيس سيلفا كير أعرب عن موافقته على التفاوض مع نائبه السابق مشار. "سأجلس معه وأتحدث إليه... لكنني لا أعلم ما ستكون نتائج المحادثات"، قال. من جانبه، دعا مشار القوات المسلحة إلى الإطاحة بكير، وقال: "إذا ما أراد (كير) أن يتفاوض على شروط تنحيه عن السلطة، فنحن موافقون، لكن عليه أن يرحل لأنه لا يستطيع أن يحافظ على وحدة شعبنا خصوصاً عندما يعمد إلى قتل الناس كالذباب ويحاول إشعال حرب إثنية".

لكن مشار عاد ووافق على مفاوضات تحتضنها أديس أبابا، عاصمة أثيوبيا. قال: "فليفرج سيلفا كير عن زملائي المعتقلين وليتم إجلاؤهم إلى أديس أبابا ويمكننا عندئذ أن نبدأ الحوار مباشرة، لأن هؤلاء الناس هم من سيجرون الحوار". "زملاء مشار المعتقلون" هم أنفسهم القيادات التي كانت تعارض كير. دعوة مشار لم تلق استحسان الحكومة. خرج وزير الاعلام، مايكل مكوي، ليعلن رفض مطالب مشار وقال: "لن نفرج بأي حال عن أي شخص متهم بالضلوع في انقلاب عسكري." الوسطاء الدوليون يعملون جاهدين على تقريب المسافات.

تحاول الحكومة نفي صفة الإثنية عن الصراع الدائر حالياً وتصرّ على وصفه بالانقلاب. في بيان أصدرته، لفتت الحكومة إلى أنه "من بين 11 شخصية اعتقلت منذ بدء النزاع، هناك إثنان فقط ينتمون إلى النوير". وزير خارجية جنوب السودان بارنابا ماريال بنجامين قال: "لدينا انقلاب عسكري... ويجري تصويره في مناطق معينة كما لو كان حرباً عرقية عنصرية وهو أمر يجافي الحقيقة". ولكن المعارك على الأرض والتي دار بعضها بالسلاح الأبيض تؤكد عكس ذلك وتهدّد استمرار تحالف المصلحة بين مشار و"أبناء قرنق". اتهم مشار كير بأنه "يقتل أبرياء بشكل وحشي ويهاجم الناس الآخرين بسبب انتمائهم القبلي".

كلما طال أمد الصراع كلما تغلب بعده الإثني على بعده السياسي. من يسيطر على منابع النفط سيستطيع تمويل حربه. أوغندا تدعم الحكومة وأرسلت فرقاً عسكرية لمنع سقوط جوبا ويقول البعض إن طائراتها الحربية شاركت في معركة إعادة السيطرة على بور. السودان يفضل بقاء كير في السلطة. حالياً، تتزايد وتيرة محاولات الوساطة بين المتصارعين. بعد قرار مجلس الأمن إيفاد 5500 عنصر إضافي إلى قوات حفظ السلام العاملة هناك (مينوس)، يجري الحديث الآن عن مفاوضات ستحتضنها أديس أبابا يوم الثلاثاء المقبل. إن لم تفضِ المفاوضات إلى نتيجة سيكون مستقبل الشعب الجنوب سوداني (يعاني نصفه من فقر مدقع رغم وفرة الثروات الطبيعية) قاتماً جداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard