شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قوة

قوة "العادي" كمفهوم في بناء مواقفنا وتشكيل عالمنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 5 يوليو 201711:55 ص

"الوزير: الناس، المجانين، إنهم يرموننا بالجنون. ويتهامسون علينا ويتآمرون بنا، ومهما يكن من أمرهم وأمر عقلهم فإن الغلبة لهم، بل إنهم هم وحدهم الذين يملكون الفصل بين العقل والجنون. لأنهم هم البحر وما نحن إلا حبتان من رمل. أتسمع مني نصحاً يا مولاي؟

الملك: أعرف ما تريد أن تقول.

الوزير: نعم، هلم نصنع مثلهم ونشرب من ماء النهر".

في مسرحيته "نهر الجنون"، استعاد الأديب المصري توفيق الحكيم رواية النهر الموبوء الذي شرب منه كل سكان المملكة، حتى الملكة وكبير الكهنة وطبيب الملك، فأصابهم الجنون. الملك ووزيره كانا الوحيدين اللذين امتنعا عن الشرب. في هذه الرواية يعيش آخر العاقلين صراع امتلاك الحق كأقلية في وجه بحور من الجنون، ليتبين أن "الحق والعقل والفضيلة" قد أصبحوا ملك الأكثرية، أما الملك، حسب وزيره، فلا يمتلك منها شيئاً بمفرده، ولو كان العقل صنوه. هكذا خلص الاثنان إلى أن الجنون سيتيح لهما رغد العيش في المملكة، والعقل سيجعلهما منبوذين. اختار عقليهما الجنون، لأنه "من الجنون أن تظل عاقلاً بين مجانين". وقررا الشرب أيضاً من ذاك النهر. "الشرطة وحيدات قرن (خراتيت) والقضاة وحيدات قرن (خراتيت) وأنت الإنسان الوحيد وسط كل هذه الخراتيت. كيف يمكن أن يدار العالم من قبل البشر؟ هكذا تسأل الخراتيت نفسها. اسأل نفسك أنت: هل حقيقة أن العالم قد أدير يوماً ما من قبل البشر؟"

عُثر على هذا التعليق في دفتر مذكرات الكاتب يوجين أونسكو في العام 1940، ويعود إلى ما قبل عشرين عاماً على ظهور مسرحيته الشهيرة "Rhinocéros" أو "وحيد القرن"، والتي يرى النقاد أنها جاءت نتيجة تفشي الأفكار النازية والفاشية حول العالم.

تدور فصول تلك المسرحية في مدينة فرنسية صغيرة، كانت هادئة إلى أن ظهر وحيد القرن وهو يمشي في إحدى شوارعها، ثم ظهر آخر فبدأ الجدال ما إذا كان نفسه قد مرّ مرة أخرى أو أن هناك اثنين منهما. بعد ذلك بدأ الناس يرون وحيدات القرن بكثرة في الشوارع.

يتضح لاحقاً أن هذه الحيوانات الغريبة ليست سوى الناس أنفسهم، التي بدأت تنمو لديهم قرون خرتيتية وتخشن جلودهم وتتسامك، بينما تتحول أصواتهم إلى خوار أجش. تحول كثر من السكان إلى قطيع ضخم بدأ ينشر الخراب في المدينة.

ثم تحول الجميع، حتى ذاك الرجل المحترم الذي كان يلقب برجل المنطق. قال أمام صديقه برنجيه الذي كان يشهد على تحوله "الإنسانية ماتت، وأولئك الذين يتمسكون بها ما هم إلا أشخاص عاطفيون قدماء".

كان برنجيه وحبيبته ديزي آخر بشريين في عالم الوحوش، أرادا التمتع بحياة طبيعية، بينما أصر برنجيه على محاولة إعادة الجنس البشري إلى عهده. لكن ديزيه رأت أن البشر لهم الحق بالاختيار، ثم بدأت تتهمه بأنه لا يفقه من الحب شيئاً، وهي تزداد اقتناعاً أن الخراتيت على حق. انضمت ديزي لاحقاً إلى الخراتيت، وبقي برنجيه وحيداً. حاول الانضمام إلى الوحوش التي سبقته لكنه فشل، فعاد ليصرخ وحيداً "لن أستسلم".
عن خطورة تحويل الاستثناءات إلى عادة... لا فرق إن كانت محقة أو خاطئة، يكفي أن تتبناها الجماعة
مفهومنا لما هو "عادي" يتغير أو يُغيّر مع مرور الوقت. والجنون، إذا ما تبنته الجماعة يصبح هو عين العقل

صناعة "العادي"

خلال العام الماضي، حضر الكلام عن مسرحية أونسكو في معرض الخوف من تحول سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى "عادي" من خلال الإعلام، وبالتالي عبر تطبيع الناس لمواقفها تماشياً مع سلوكه.

لكن ترامب لا يعدّ سوى مثالاً عن قوة "العادي" الذي يصبح كذلك بعدما تتبنى الأكثرية "الاستثنائي" فيتحول إلى قاعدة تجعل من يخالفها منبوذاً.

شغل هذا المفهوم الكثير من الباحثين، ومن بينهم كانت تلك الدراسة اللافتة لكل من آدام بيير وجوشوا نوب في جامعة "يال"، واللذين تعمقا في تفسير موقف الناس من الظرف العادي والدوافع التي تجعلهم يصنفون موقفاً ما في دائرة "العادي" أو "الاستثنائي".

تقول الدراسة إن معتقدات الناس حول "العادي" تلعب دوراً مهماً في تشكيل معرفتهم وحياتهم (مثال المعرفة والدلالات اللغوية والسلوك المشترك)، ولكن كيف يحدد الناس الأمور التي تعد طبيعية في المقام الأول؟ بحسب الدراسة، تبنى مواقف الناس من "العادي" على عاملين: الأول مرتبط بالأمور التي يصنفونها في خانة "الطبيعي"، والثاني بما يؤمنون أنه في خانة "المثالي". ويلفت الباحثان إلى مفصل أساسي هنا وهو تأثير المعايير الأخلاقية على رسم إطار "العادي"، وبطريقة معاكسة لكنها موازية، هو قوة "العادي" في رسم المعايير الأخلاقية. بشكل أعمق، فإن العادي/ الطبيعي يتشكل من خليط فيه الاعتبارات الوصفية من خلال المعطيات والملاحظات الإحصائية التي تشير إلى انتشار أمر ما بين الناس، وفيه الاعتبارات الإلزامية المتمثلة بالمكتسبات الأخلاقية.

"المساحة الآمنة"

في دراسة جامعة "يال"، جرى كذلك التركيز على عدد المرات التي يستخدم فيها الناس كلمة "عادي" أو "طبيعي"، وهو عدد كبير نسبياً يأتي كمحاولة لطمأنة الذات في وجه ما هو "غريب" أو "غير عادي". في المقابل، يبدو أن كلمات أخرى كرستها وسائل الإعلام والأدب في السياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها من المجالات كـ"صعب" و"استثنائي" و"مرتفع" و"مفصلي" اتخذت معانيها ما يشبه الاجماع، من دون التعمق في اختلاف كل مفهوم بحسب الظروف والمعطيات المحيطة به. في مقالتها في موقع "BBC Future"، تقول الكاتبة جيسيكا براون بأننا كبشر نبدو شديدي الحرص على مفهوم "العادي". وعليه، بعد حدث كبير نشهده في حياتنا، فإن كل ما نريده يتمثل برغبتنا في العودة إلى الوضع الطبيعي. هذا ما برمجنا عقلنا عليه، وهذا ما أسميناه مساحتنا الآمنة أو الـ"Comfort zone".

توضح لاحقاً أن تمسكنا بـ"العادي"، هو نتيجة تشابك بين مسببات موضوعية وأخرى شخصية، وبين أحكام أخلاقية وأخرى اجتماعية، ما يجعلها عرضة للأفضل وللأسوأ.

تحاجج براون قائلة إن "العادي" قد يكون له تأثير بالغ على حياتنا، ومثالها في ذلك ما كتبه مجموعة من المنظرين والمؤرخين وعلماء الاجتماع في جامعة برمنغهام عن معايير الجمال باعتبارها "حكماً قيمياً ليس موضوعياً أو وصفياً". وعليه فإن العادي هنا هو المنتشر كقاعدة، لكنه مؤذي للكثير من النساء والفتيات. مثل ذلك حصل النقاش بشأن تعاطي المخدرات الذي أصبح مع الوقت في إطار العادي والمنتشر بين المراهقين. يحصل ذلك في السياسة بشكل يومي، عبر اعتماد مصطلحات بشكل متكرر لجعلها عادية، وعبر تغيير استخدام بعض المصطلحات لتكريس نظرة أخرى لها وتسهيل قبولها اجتماعياً، وضمان مشاركة واسعة لها تجعل من يعترض عليها خارج إطار الجماعة.

"التطبيع الاجتماعي للانحراف"

في مثال آخر عن قوة "العادي" ومفاعيله السلبية، يشرح روبرت غان وراسكين غوليكسن كيف يؤدي تطبيع خطأ بسيط في الحكم، وجعله عادياً مقارنة بنزوع البعض لتضخيمه، إلى كارثة في بعض الأحيان.

عندما تتبنى الأكثرية "الاستثنائي"، يتحول إلى قاعدة تجعل من يخالفها منبوذاً... وقفة عند مفهوم الـNormalisation أو "العادي" ودوره في تشكيل عالمنا

يذكر الباحثان بالكارثة التي أدت إلى مقتل سبعة رواد فضاء فى العام 1986، عندما انفجرت مركبتهم بعد 73 ثانية فقط من إطلاقها. كان الخبراء قد حذروا الرواد أن درجات الحرارة الخارجية منخفضة جداً، لكنهم أصروا على الانطلاق. وقد بين التحقيق أن هؤلاء كانوا قد اختبروا التآكل الذي يحصل في المركبة نتيجة البرد و"لم يحصل شيء". وبالتالي رأوا أن "الخطر لم يعد مرتفعاً جدا للرحلات القادمة. يمكننا خفض معاييرنا قليلا لأننا خرجنا بها في المرة الأخيرة". وعليه يرى الباحثان أن التطبيع الاجتماعي للانحراف سببه اعتياد الانحراف، الذي يصبح عادياً ولو كانت معايير السلامة تفيد عكس ذلك. هكذا يصبح الانحراف جزءاً من الثقافة، ويصبح عادياً. لا يمكن هنا اختصار كافة مفاعيل "العادي" على حياتنا الشخصية، كما على الفضاء العام السياسي/ الاجتماعي/ الثقافي/ الصحي. يحضر "العادي" بقوة في عالمنا العربي، بينما تنتشر ثقافة الشرب من نهر الجنون بكثافة. يهرع أصحاب العقل نحو الجنون، إنقاذاً لحياتهم وتطبيعاً مع الجموع، يتردد بعضهم قليلاً لكنهم يجدون مبررات كثيرة تعينهم على قرار التخلي عن العقل. في المقابل، يصارع قلة كي لا يتحولوا إلى خراتيت. البعض من أجل الحفاظ على آخر ما تبقى من جلده الطبيعي، بينما يرى الجزء المتبقي يتسامك غصباً عنه، لكنه يتجنب قتال الخراتيت الآخرين. القلة القليلة تصارعهم وتقف لتقول "لن أستسلم". لكن الكلمة الفصل تبقى الآن لـ"العادي". العادي الذي قد يتحول يوماً ما بتحول ظروفه، ليصبح عادياً مختلفاً. لا فرق ما يكونه شرط أن تتبناه الجماعة.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard