شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يهودي صغير يودِعني

يهودي صغير يودِعني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 23 يوليو 201605:46 م

تلك الصورة في كتاب القراءة لتلاميذ الصف الثاني الإبتدائي لا تُنسى، صورة الجندي العربي البطل الذي يشبه المطرب التركي ابراهيم تاتليسس بشاربيه الأسودين وشعره الأجعد ونظراته الصارمة الشجاعة وهو ينقض بحربة بندقيته على الجندي الصهيوني الجبان طبعاً صاحب النظرة الهلِعة المتوسلة، ثم لن أنسى بعد ذلك مصطلحات كثيرة كالعدو الصهيوني الغاشم، والكيان العنصري، بل إن البعض لا يتجرؤون على ذكر اسم إسرائيل دون تلك الديباجات، فتسمع الراديو وهو يبث برنامج (قواتنا المسلحة) الذي يتخصص في بث الروح العقائدية في صفوف أفراد جيشنا الباسل طبعاً، وتسمع إحدى التمثيليات التوجيهية الكوميدية، وهي عبارة عن حوار بين جنديين صهيونيين، فيقول أولهم واسمه ناعوم لصديقه ساحوم:

ـ ساحوم

ـ نعم يا ناعوم.

ـ هل تعلم بأن علينا الحذر من الجيش السوري البطل!

ـ ولماذا يا ساحوم؟

ـ لأنه جيش عقائدي شجاع لا يخاف.

ـ نعم صدقتَ يا ناعوم.

ـ كما أنهم يلتفون حول قائد عظيم.

ـ ومن هو هذا القائد العظيم يا ناعوم؟

ـ إنه سيادة الرئيس المناضل الفريق الركن حافظ الأسد يا ساحوم.

وفجأة يهاجمهما جندي عربي سوري بطل ويقول مهدداً: قفا مكانكما بلا أية حركة. من أنتما؟ فيردان معاً: نحن من العدو الصهيوني الغاشم! وكنا قد سبقنا هذه البرامج في مسرحياتنا المدرسية التي كان مسموحاً لنا فيها أن نوجه الكلمات النابية ضد العدو الغاشم حصراً، كما أن الأدباء كتبوا الكثير عن هذا الصراع، لكن ما يهمنا هو ذلك الأدب الذي خاف أيضاً من ذكر إسرائيل حاف، لا بد من الديباجات التقليدية. ها هو قاص قرأ قصته عن شاب فلسطيني يحب فتاة يهودية في الأرض المحتلة، فيسألها الفلسطيني: متى أتيت إلى هنا؟ فترد الفتاة الإسرائيلية: أتى أهلي إلى الكيان الصهيوني العنصري المزروع في قلب الأمة العربية عام 1948 قادمين من بولونيا!

المهم ما لكم بالطويلة، فلقد شاءت الظروف أن أمشي في شارع خلف شارع مدرستي حلب الخاصة الثانوية في حي الجميلية بحلب كي لا يراني الآذن عابراً دون أن أدخل، إذ أنني كنت قد نويت الغياب عن الحصة الأولى من أجل صحن فول بطحينة من عند الفوال أبو حسن.

فجأة رأيت فتاة جميلة شقراء بشعر قصير تحمل طفلاً في يديها تشير إلي بالصعود إليها عبر درج طويل جميل يصل إلى بيتها، فصعدت وفي رأسي تتعارك الأفكار الرومانسية مع أفكار الإثارة... قررت أن أكون رومانسياً في البداية ريثما نتعرف على الأجواء الفعلية لهذه الدعوة الأنثوية الصباحية، لا بد وأنها مطلَّقة وزوجها الحقير ترك لها الطفل وهرب إلى عوالمه المتهتكة، لذا أتزوجها ونربي الطفل معاً... كذلك قررت وأنا أصعد الدرج الطويل إليها، وما إن وصلت حتى أشارت إلي مبتسمةً أن أدخل البيت، وفرطت أعصابي يا شباب، سأدخل... نعم سأدخل! ـ تفضل ادخل. كذلك قالت المدام.

ودخلنا. البيت معتم تقريباً بفضل الستائر المسدلة. يا سلام... الستائر مسدلة، هناك إضاءة خافتة جداً، الجو رومانسي جاهز إذن، ينقصنا فقط صحن الفول المشتهى من عند أبو حسن، لكن لا بأس، لا مكان للفول في هكذا نوع من الجلسات، أصلاً الفتيات الموديرن يكرهن الفول كرهاً جماً...

صوت رجل يرحب بي هزني رعباً ثم دمَّر أفكاري بشقيها الرومانسي والمثير، بينما هي تقول لي أن أمشي إلى الأمام قليلاً ثم أنحرف إلى اليسار. قبل أن أنحرف شاهدت امرأة عجوزاً جالسة فرميت عليها التحية، فردت بابتسامة وتحية. طلبت الفتاة بلطف أن أشعل تحت صحن من الجبنة والماء على البوتوغاز، وطلب الرجل أن أشعل النار تحت إبريق الشاي أيضاً.

خفتُ، لماذا لا يقومان بذلك، لماذا أنا من سيشعل الغاز! وكأنهما عرفا ما يدور في ذهني فعاجلني الرجل بالقول: نحن لا نعمل يوم السبت، حرام عندنا، لأننا يهود. يهووود! يا عيني... يا ليلي... والله وأكلتها يا أبو حسين وما حدا سمّى عليك، علقت بين أيدي العدو الصهيوني الغاشم، هل لأنني قلدت الصهاينة في مسرحيات المدرسة وقلت للفدائي الفلسطيني: هيا اعترف يا أحمد... ثم قمت بتعذيبه! هل لأنني وضعت عصابة على عيني وأنا ألعب دور موشي دايان! هل جاءك موشي ديان محتلاً حلب وسيعاقبك بقطع لسانك لأنك سخرت منه! هل أصبحت مكاتب مناحيم بيغن هنا! ولييي بس ما يعملوا مني فطير صهيون!

وبدأت بإشعال الغاز بتوتر شديد، طلبا مني أن أشعل تحت قدور موضوعة على نار فوانيس هادئة جداً، فأشعلت. طلبا أن أطفئ تحت الجبن وأغسله وأضعه في صحن من البللور ففعلت. طلبا أن أنقل إبريق الشاي مع الكؤوس وعلبة السكر والملعقة إلى الطاولة فنقلت. طلبا أن أقلي البيض بلطف شديد فقليت، وبعدها لم أدر كيف صرت خارج البيت، ودعتهما بسرعة البرق حالما انتهيت من مهماتي، لحقا بي إلى الباب مع الطفل الصغير الذي لوح لي بيده أيضاً، يهودي صغير يودّعني!

دقيقة واحدة فقط وكنتُ آكل الفول عند أبو حسن لاهثاً وأنا أنتظر أن تقبض علي المخابرات بتهمة إعداد فطور للعدو الصهيوني الغاشم.

الصورة جزء من غلاف مجلة "أسامة" للأطفال عام 1975 

تم نشر المقال على الموقع بتاريخ 30.09.2013

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard