شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لماذا هناك من يقول بأن طريق العرب نحو النبوة مرّ بالشام؟

لماذا هناك من يقول بأن طريق العرب نحو النبوة مرّ بالشام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 21 أغسطس 201705:12 م

من النادر أن تُجمِع مراجع التاريخ الإسلامية والمسيحية على أهمية أحد الأشخاص وتمنح حياته قدراً كبيراً من العناية، أمرٌ قد نتفهَّمه مع سيرة خليفة بحجم عمر، لكنه قد يبدو غريباً إذا تعلق بـ"ناسك" شبه مجهول اقتصَرَ ظهورُه على بعض اللحظات المفصلية بكتب تأريخ بواكير الإسلام، عنده بدأت بشائر النبوة وأيضاً محاولات ضرب أساسها، هو المَنفِي المهرطق المشلوح، والقدِّيس المتنبئ الصالح، أول من توقَّع نبوة الرسول أو أول من لقّنه إياها. هو سيرجيوس أو سركيس أو بُحيرا. تعدَّدت الأسماء والراهب واحدٌ، حتى اللقب الأخير رغم شيوعه فإن اللغوي خضر عبد الرحيم يؤكد خطأه في مُعجمه، ويزعم أن نُطقه الصحيح هو "بَحيراء أو بَحيرى"، لتبقى سلسلة الأسئلة بحق الرجل بلا نهاية. يخبرنا كلٌّ من ابن سعد وابن هشام عنه، ولكن بقصص تتباين عن بعضها في تفاصيل عدة: التقاه الرسول عندما كان عمره 9 أو 12 سنة، في إحدى سفراته مع قوافل التجارة من مكة إلى الشام، وكان وقتها بصحبة أبي بكر وأبي طالب. وعندما التقى محمد بالناسك المسيحي، تنبّأ له الأخير بقدره، وعرفه من خاتم النبوة، أو بحسب رواية أخرى، من غيمة ظللته رغم تغير حركة الشمس، والتي اعتبرت من علامات النبوة.

حقيقة الاسم

يُعارض المسعودي كافة الروايات الإسلامية لحياة الشخصية، قائلاً بأن "بحيرا" مجرد لقب، واسمه الحقيقي هو "سَرْجِسُ"، كمحاولة منه لتعريب كلمة "سيرجيس"، التي زعم أنها فارسية الأصل بمعنى "اختُبر من الله... ونجح". فيما يؤكد المستشرقان نولدكه وسبرينجر أن اللقب آرامي ويعني "المختار"، ليعارضا هنري بَدْروس الأخصائي في التاريخ الآرامي، والذي أكد في مقالة له أن ترجمته "بحَّار في العلوم"، متفقاً بذلك مع جزء من تحليل الكندي، الذي وافقه في المعنى ولكن الأخير انفرَد بتفسير جديد، وهو أن اللقب عربي بالأساس، معتمداً على الجذر (ب ح ر) الذي استأثر بمعاني الاتساع والمبالغة في اللغة، ومنها بَحْر (مكان واسع المياه) وحَبْر (رجل واسع الفِقْه)، فكان "بحيرا" أي الرجل الذي تبحّر في العلم.

رحلة "الصيف"

اعتاد العرب تنظيم رحلتين تجاريتين في السنة الأولى شتاءً نحو اليمن، والثانية صيفاً تجاه الشام، ومن هنا درجوا على إتيان الحدود الشمالية بصفة مستمرة، حيث بدأت الحكاية مع "راهب الشام" الحكيم الذي يأتيه العرب ليستظلوا بشجرة حكمته حتى من قبل البعثة. فكانت قصة العرب الأربعة؛ أسقف بني تميم سفيان بن مجاشع، يزيد بن على بن ربيعة من بني تميم، وأسامة بن مالك، وأُحـَيحة بن الجلاح بن الحريش، الذين قابلوه فبشَّرهم بنبي يخرج من بينهم اسمه "محمد"، فلما عادوا وكلما رزق منهم أحدٌ بولد أسماه "محمد"

يتفرد الباحث عبد الرحمن الحوراني في كتابه "أعلام من حوران"، بمنحنا المزيد عن حياة الرجل قبل قدومه للشام، ويصفه بـ" الراهب المتبحر، عميق التفكير، بعيد الرؤيا، المستشرف لآفاق المستقبل"، وأنه عاش فترة في دير رهبان طور سيناء، وطُرد منه "لاعتبارات كثيرة" لم يُسمِّها، لكنها كانت سبباً في لجوئه إلى البادية، وعدا ذلك تكاد تخلو المراجع من أي ذِكر "قبل إسلامي" له. لكن بعد البعثة، تتقاطع المصادر الدينية أجمعها، في أن هناك راهب ما طاعن في السن، سَكَن الشام على طريق القوافل واعتاد تقديم إرشاداته الروحية لقاصديه. أجمعت معظم الكتب على أنه عاش في "بصرى"، إلا المؤرخ ابن عساكر في "تاريخ دمشق الكبير"، حيث زعم أن مقامه كان في قرية "ميفعة" التي تبعد عنها 6 أميال، بينما هدت حسابات الباحث الأثري نزار طرشان الجغرافية إلى أنه استقر ببلدة "بصيرة" وهي قرية تقع جنوب الأردن، وفقاً لما أورده بأطروحته "البحث عن كنيسة الراهب بحيرا". بخلاف ذلك القصة واحدة؛ تقدمها كُتب: تهذيب السّيرة لابن هشام، وسُنن الترمذي، وتاريخ الطبري، ومروج الذهب للمسعودي، والمستدرك على الصّحيحين للحاكم النيسابوري وغيرها، القصة المشهورة بصيغ متباينة، والتي تتلخص في أن الراهب تنبّأ للصبي محمد (12 عاماً) بالنبوة وأنه سيكون "سيد العالمين"، وحذَّر عمَّه من فتك اليهود به لو عرفوا حقيقته (بحسب ابن سعد) أو من الروم (بحسب الطبري). وأن هذا اللقاء كان أولى خطوات الرسول في طريق البعثة، وهنا تتخاصم مراجع التاريخ الإسلامية والمسيحية، وتنشقُّ إلى طودين عظيمين هائلي الاختلاف في تأويل كل منها للحادثة وأهميتها.

كما يسرد الإمام ابن اسحق في كتابه "السيرة النبوية" لقاءً ثانياً حدَثَ بين الرجلين بعدها بـ13 عاماً، حين ترأس الرسول رحلة قافلة السيدة خديجة إلى الشام بصحبة غلامها ميسرة، ونزلا تحت شجرة قُرب دير الراهب الذي ما أن لاحظهما حتى قال "ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي" وأكد لميسرة أن قائده هو "آخر الأنبياء". 

سيرجيوس أو سركيس أو بُحيرا: المَنفِي المهرطق، أم القدِّيس الذي تنبأ بقدر رسول الإسلام
لم يبقَ من سيرة هذا الراهب إلا ديره الذي تحوّل إلى كنيسة صغيرة على الطراز "البازيليكي" تصدرت نشرات الأخبار عام 2012، عندما طالها قصف مدفعي بسبب أحداث العنف التي تجتاح سوريا، وشجرة البقيعاوية التي قيل إن الرسول استراح تحتها، وتحولت إلى مزار روحي يؤمه المئات حتى يومنا هذا.

تنبأ بالرسول... أم تنبأ بالقرآن

شاع الوجود المسيحي بالشام قبل بعثة الرسول، ويكفي أن نعلم أن مجمع خلقيدونية الذي عُقد 451م (120 سنة ميلادية قبل ميلاد الرسول وفقاً لتحقيق العالم محمود باشا الفلكي)، شهد مشاركة 630 أسقفاً، 17 منهم أتوا من بصرى وحدها، وفقاً لبحث "المسيحيون المشرقيون العرب" الذي أعدَّه غسان الشامي. ولم تغب المراجع المسيحية عن قصة بحيرا، ولم تتركها إلا وقد أضافت لها أبعاداً كثيرة، فاعتبر القديس يوحنا الدمشقي (675م - 749م) في كتابه "الهرطقة المئة"، الذي أصدره باليونانية خلال حكم الدولة الأموية، أن الإسلام ماهو إلا "هرطقة إسماعيلية" نشأت من تحاور الرسول من "راهب آريوسي" لم يسمِّه، ليشكل أولى حلقات المساهمة المسيحية في القصة، باتخاذها أساساً لكل ما كُتب في القرآن من آيات. وفي القرن القرن التاسع الميلادي، تناقر الصديقان عبد الله الهاشمي خطيب جامع المنصور، والمُبشِّر عبد المسيح الكندي على أيٍّ منهما يتبع الدين الحق، فكان أحد ردود الأخير هو رسالة شهيرة حفظها التاريخ لنا، وتضمنت ذِكراً لبحيرا، أكد بها أنه من "رهبان النصارى أحدث حَدَثاً أنكره عليه أصحابه، فحرموه من الدخول إلى الكنيسة، وامتنعوا عن كلامه ومخاطبته". ولعل ذلك هو اعتناقه الأفكار النسطورية بشأن طبيعة المسيح كما قال الكندي بختام كلامه، وهي وإن اختلفت عن "الآريوسية" (زعم الدمشقي) إلا أن كلاهما محض "هرطقات" في وجهة نظر أساقفة عصريهما، وجب حرمان أصحابها واقتلاعها من جذورها. وتزعم رسالة الكندي، أن الرسول قابل هذا الراهب بالصحراء حيث "خلا به وكثر مجالسته، إلى أن أزاله عن عبادة الأصنام، ثم صيَّره داعياً له"، وأن ذلك كان سبباً في ما تضمنه القرآن من آيات تدعو للترفق بالمسيحيين وتصفهم بأنهم "الأقرب مودة". تجللت هذه المساهمات المسيحية بإخراج قصة كاملة عن حياة الرجل ودوره المزعوم في "تأليف الإسلام" من خلال ما عُرف إعلامياً بـ"مخطوطات بحيرى".

مخطوطات بحيرى

طرح المستشرق ريتشارد جوتيل (1862 – 1936) دراسته "أسطورة بحيرا النصرانية" المعتمدة على 3 مخطوطات سيريانية وسبع مخطوطات عربية مسيحية محفوظة في مكتبات باريس وجوتا والفاتيكان، تلاه المطران عبد الأحد شابو الذي نال الدكتوراة على تحقيق مخطوطين آخرين أكثر قدماً من سلفه. وتضمنت حديثاً بقلم الكاتب إيشوعياب، يقول إنه تلقاه من فم بحيرا مباشرة، تحدث فيه عن ارتقاء روحه لدرجة تلقيه رؤى سماوية حيث عاش بطور سيناء، أبصر من خلالها أرواح القديسين وتلاميذ يسوع ويوحنا المعمدان وشجرة المعصية، بزعم أن هناك "ملاك متوكل به" يوحي إليه، ومنها ذهابه إلى ملك الروم وتحذيره من تحطم مُلكه على يدي الإسماعيليين (العرب). بعدها ساح في البلاد داعياً إلى الإيمان بـ"صليب واحد قائم فى الدنيا كلها"، يضيف بعدها أن أساقفة الناحية طردوه فلجأ إلى البرية، وأوى لهذا الدير وعمّره وحفر فيه بئراً جلب إليه العرب للاستسقاء، ثم "صاروا يجلسون عندي فى كل الأوقات ويأنسوا بي واستأنس بهم". وبعدها تسرد المخطوطة لقاءات بحيرا بالرسول وكيف نتج عنها الآيات القرآنية وطرُق ادعاء النبوة وكيفية الصلاة وسُبُل الدعوة، وبالطبع لاقت هذه الأطروحات رفضاً واستنكاراً إسلامياً واسعاً. 

رأي من اعتبرها قصة رمزية

بالنظر لعدد من التفاصيل في مخطوطة بحيرا، وجد عدد من الباحثين أن قصة اللقاء بين الرسول والراهب الناسك، ما هي إلا قصة رمزية، تصيغ النبوة في الإسلام، في قالب تبلور حول وجهة نظر مشككة بخصوصيته ومكانته، بادعاء استقاء نبوة الرسول من مصدر مسيحي.   ومن هنا يجد الباحثون بأن الأصح اعتبار القصة رمزية، بدلاً من البحث عن أساس تاريخي لها. فاللقاء نفسه، بحسب هذا الرأي، يجمع عناصر من أكثر من سردية وينسجها في قصة واحدة: فهي تستخدم عناصر (سردية) من التنبوء بظهور "المهدي"، وعناصر من المخطوطة (الزائفة)، المنسوبة خطأ لميثوديوس أسقف أوليمبيس. مع نهاية القرن الثاني وبداية الثالث الهجري (الثامن والتاسع الميلادي)، على أيّ حال، اعتبرت المصادر الإسلامية بحيرا شخصية تاريخية، رغم الخلافات المثارة حوله، واستخدمت قصة لقائه مع الرسول كبرهان إضافيّ من صلب الدين المسيحي، على علامات نبوة محمد، وعظمة الإسلام وفرادة نبيّه. ويمكن التوسع في معالجة المصادر الإسلامية لسيرة الراهب، في مقالة "بحيرا" في موسوعة الإسلام، الطبعة الثانية.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard