شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رواية

رواية "جنوب الملح"، أوجاع جنوب الجزائر وجراحه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 18 يونيو 201604:13 م

يتناول "ميلود يبرير" في روايته الأولى "جنوب الملح" تاريخ الجزائر المعاصر من خلال ثلاثة أجيال عايشت التقلبات التي مرت بها البلاد خلال العقود الأخيرة، متطرقاً إلى بعض القضايا الكبرى المتعلقة بأزمة المواطن الجزائري بعد الاستقلال، وهويته.

يتوزع السرد بين شخصيتين، الأولى هي حكمة التي تكتب رسالة قصيرة إلى والدها مصباح بلغة شاعرية مفعمة بالحب والشوق. تكتب إليه بعد مرور ثلاثين سنة على وفاته، لتخبره عن عائلته الصغيرة مختصرة أحداث زمن الغياب كله. "أكتب إليك من حجر الملح، من عين الكرم والنيّة، على بعد ثلاثين سنة من حضنك الدافئ، من جنوب النسيان أكتب إليك، من ركن بيت تسكنه ذكراك ورائحته تعبق بك، بقلب يملؤه الشوق، وعينان تتمنيان لو تريانك مرة أخرى، مرة واحدة فقط، لترتعش شفتاي بذكر اسمك، وتسمع أذناي أجمل قصة رُويت، قصة أميرة الملح، أتذكر؟".

تسلّم حكمة والدها دفة السرد بعد أن تذكر في رسالتها أنها ستنشر كرّاستيه اللتين كان يسجل فيهما مذكراته، هكذا يصبح الراوي هو مصباح المصوّر الفوتوغرافي الذي يسرد سيرة حياته التي تتقاطع مع مفاصل مهمة من تاريخ الجزائر. لا يلتزم الكاتب بخطٍ زمنيّ ثابت، يترك تداعياته تقود الحكي، وهو ممددٌ على سرير في مستشفى، حيث يعالج من الورم الخبيث الذي سيودي بحياته. ومن خلال تلك التداعيات نستطيع تركيب سيرة حياةٍ ملأى بالإجهاضات والخيبات والقسوة، سيرة حياة يتخللها أحياناً بعض اللحظات المشرقة والدافئة والسعيدة.

مصباح الذي ورث مهنة التصوير والشغف به من خاله قويدر، كان شاهداً على تقلبات كثيرة، فقد عايش أفول اليسار، والتظاهرات وبدايات التطرف الأصولي الذي انتهى إلى حرب أهلية دموية، أحرقت في طريقها كل شيء. وهو واحد من جيل ما بعد الاستقلال، ذلك الجيل المشتّت، المأزوم، الضائع في هويته وانتمائه، الضائع بين ماضيه وحاضره، فالماضي فيه بطولات ضد الفرنسيين، ثورة على الاحتلال، وعمٌّ استشهد في الجبال، والحاضر فيه أبٌ ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ومعجبٌ بالثقافة الفرنسية، يأكل أوراق المنشورات كي لا تكون سبباً في اعتقاله. والحاضر فيه أيضاً مدٌّ أصوليّ يهدد كل من حوله، هل الماضي أفضل أم الحاضر؟ هل يعجب بفرنسا أم يكرهها؟ ولا جواب إلا مزيدٌ من التيه. "أبي متوسط التعليم، ارتاد المدرسة الفرنسية في منتصف الخمسينيات. حكى لنا، أنا وأمي عن رحلته المدرسية إلى باريس. عندما يصف لنا الحدائق ومتحف اللوفر وبرج إيفل كنت أتساءل هل فرنسا هذه شريرة لأنها قتلت عمي الوحيد أم خيّرة لأنها أنقذت جدي من الفيضانات؟ وقبل أن أجد جواباً، يوجّه إليّ أبي خلاصة كلامه: وحدي بين زملائي ذهبت إلى باريس لأنني أكثرهم اجتهاداً".

استخدم الكاتب في روايته لغة سردية رشيقة، خالية من الزيادات والتكلف، واستطاع ببراعة أن يحكي على لسان شخصيتين مختلفتين، فكان الفصل المكتوب بلسان حكمة مختلفاً في لغته وتفاصيله عن الفصول المكتوبة بلسان مصباح، لكن الكاتب لسببٍ ما لم يستغلّ هذه المقدرة، فاكتفى بالفصل اليتيم الوارد في أول الرواية. كما أن اختيار الزمن المتشظي في كراسة الأب جاء مناسباً لما تريد الرواية قوله، فهو من جهة يشبه التشظي الذي يعيشه أبطال الرواية، ومن جهة أخرى أتاح للروائي نثر حكاياته والتنقل بينها ثم العودة إليها لإكمالها في النهاية.

أيكون من المنطقي أذاً أن يتدرب على العمى، لعل العمى يكون راحةً من المشاهد التي تنهك العين؟

تغدو الصور التي يلتقطها البطل بآلة التصوير شريكةً في السرد أيضاً، فصور آثار الحروق على جسد جهيدة، المرأة التي يكتشف معها رغباته، تخبئ حكاية امرأة أحبت رجلاً عمل في السياسة فاعتُقلت معه وعُذّبت. ذلك الرجل خرج من المعتقل مصاباً بالجنون، وصار كلامه ملغزاً أكثر من صمته، "صامتاً كصخرة، يتضح بمجرد سماع جمله الملغزة أن صمته مفهوم أكثر من كلامه القليل، يقترب منه أحد الغرباء عن المدينة ويسأله عن موعد حافلة أو اتجاهها فيجيبه دون حتى أن ينظر إليه وكأن الجواب بديهي: كل الحافلات تقود إلى الموت، يغيب الغريب متعجباً ويسأله آخر مستعجل: "شحال راهي الساعة يرحم والديك؟" فيجيبه سريعاً بتنهّد: "راهي تعذب فينا".

هكذا، صار الوطن وطن العذاب، وصارت كل الأوقات مُعذِّبة، وكل الأشياء: الحلم، المستقبل، الحب، الأمن... ووحده الموت "آلة عمياء لا تتعب"، أيكون من المنطقي أذاً أن يتدرب مصباح على العمى، لعله يفهم الموت، لعل العمى يكون راحةً من المشاهد التي تنهك العين؟ في تدريباته على عماه سيتعثر بحب حياته، مريم، الحب أعمى؟ وربما غياب البصر يتيح للبصيرة أن تعمل. مريمه التي ستحبه وستنجب له حكمة، ستظل باحثة في كل الأوقات عمن يفهم الصمت، صمتها وصمته وصمت العالم، في الوقت الذي "نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى من يفهم الصمت".

ميلود يبرير، ولد في الجلفة، جنوب الجزائر 1985. يعمل طبيباً، و"جنوب الملح" روايته الأولى، وقد حاز عنها جائزة الشارقة للإبداع الروائي 2015.

الناشر: دار الجديد/ بيروت - دار البرزخ/ الجزائر

عدد الصفحات: 202

الطبعة الأولى: 2015

يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات  وموقع آرابيك بوك شوب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard