شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قصّة أكبر ستوديو إنتاج في العالم العربي وأرشيفه المهدور

قصّة أكبر ستوديو إنتاج في العالم العربي وأرشيفه المهدور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 7 يوليو 201605:20 م

يبدو ستوديو بعلبك، بأبوابه المفتوحة وشبابيكه المخلعة في بولفار 166 بمنطقة سن الفيل في بيروت، كمكان فاقد للحياة منذ زمنٍ طويل. ولكن إن كان أكبر ستوديو إنتاج في العالم العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة قبل أعوام عديدة، فقد ترك إرثًا ذهبيًا وتسجيلات صوتية وأرشيفاً من الأفلام تشكّل مدعاة فخرٍ لكل اللبنانيين.

تسجيلات شملت شهرتها العالم العربي كله، من أربيل إلى عمان، مروراً بدمشق والقاهرة، ولكن الإهمال جعل العفن يضرب جزءاً منها في مستودعات رطبة تحت الأرض بسبب تقصير الحكومة اللبنانية.

"سوف أعلمه بالأمر، لكنني لا أفهم ما هي العلاقة بين بعلبك والسينما اللبنانية!" هذا ما قالته مساعدة وزير الثقافة روني عراجي عندما اتصلنا بها لطلب لقاء معه منتصف نوفمبر الماضي. العلاقة؟ لا رابط بين ستوديو بعلبك ومدينة بعلبك اللبنانية، غير أن ستوديو بعلبك هو ذاكرة السينما اللبنانية، وحتى أكثر من ذلك، ففي ستوديوهاته تم تسجيل العديد من الأعمال الفنية، بدءاً بأغاني وأفلام فيروز وصولًا إلى مئات الأعمال الموسيقية لفريد الأطرش وعبدالوهّاب وصباح وغيرهم من نجوم الساحة العربية.

بداية واعدة

إن كان أول فيلم لبناني صامت قد تمّ تصويره في ثلاثينيات القرن الماضي على يد جوردانو بيدوتي Jordano Pidutti، فلم تشهد السينما اللبنانية انطلاقتها الفعلية إلا بعد بضعة أعوام من الاستقلال. "في الخمسينيات، قرر بعض المخرجين والكوميديين من عالم المسرح الانخراط في تجربة السينما وأبرزهم جورج قاعي وميشال هارون” يقول هادي زكاك، مخرج ومؤرخ للسينما اللبنانية.

لقد كانت الألمانية هيرتا جرجور Herta Gargour أوّل من أسس شركة للانتاج السينمائي في لبنان هي “شركة لومنار فيلم” Lumnar Film في ثلاثينيات القرن الماضي وذلك في منزلها الخاص. تبعها في العام 1952 “ستوديو الأرز” الذي أسّسه جورج قسطي، أوّل مدير تصوير في لبنان، ثم ظهر ستوديو هارون وستوديو صوت الشرق الأدنى Near East Sound Studio لريمون عوّاد واستوديو موديرن Studio Moderne الواقع آنذاك في الضاحية الجنوبية لبيروت.

"لم تكن هذه الستوديوهات لتقارن بـ"ستوديو مصر" في القاهرة. كانت تتألف بشكل أساسي من شققٍ خاصة وحمامات تم تحويلها إلى مختبرات. لكن كان لـ"بديع بولس" حلم كبير، وهو تأسيس مدينة للسينما في لبنان على غرار "السيني سيتا" Cinecittà في إيطاليا، وقد نجح في تحقيق قسط من هذا الحلم".

كان بديع بولس على رأس الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية، عندما أسّس مع يوسف بيدس، مؤسس مصرف إنترا، ستوديو بعلبك في حزيران 1962، وهو تاريخ تسجيل الشركة في الجريدة الرسمية. يقول هادي زكاك: "كان ستوديو بعلبك من الاستديوهات القليلة في لبنان ورمى إلى إطلاق السينما اللبنانية. لقد شكل جزءاً من الإرث السينمائي والموسيقي للبنان، كما لعب دورًا بارزًا في التأسيس للهوية اللبنانية، لكونه شهد العديد من الأفلام اللبنانية والعربية والأجنبية في الفترة الممتدة ما بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي. يمكننا اعتبار هذا الستديو متحفاً حقيقياً للسينما اللبنانية".

شهدت السينما اللبنانية تطورًا سريعًا مستفيدةً من تأميم السينما المصرية على يد عبدالناصر وذلك عن طريق توجه المنتجين والمخرجين المصريين إلى لبنان لتصوير أفلامهم في ربوعه. يعود الممثل "منير معاصري" أثناء لقاءٍ معه عام 2012 بذاكرته إلى عام 1967 أيام تصوير فيلمه "الأخرس والحب” Le Muet et l’Amour ويقول: "كان موقع التصوير يعج بالحركة. كان الستوديو مجهزًا باحدث التقنيات ونظام الصوت فيه رائعًا. كل المعدات متطورة من الإضاءة إلى المونتاج إلى الدوبلاج والكاميرات. كما أن القيّمين عليه حينذاك كانوا على مستوى عالٍ من الحرفيّة".

في تلك الحقبة، كرّس 52 موظفًا وقتهم للعمل في الستوديو على مدار الساعة. بحسب "نيكولا طرابلسي"، الذي كان يعمل مهندس صوت في الستوديو من العام  1965 حتى العام 1990 “جميع الفنانين كانوا يقصدون الستوديو لتسجيل أغانيهم... كان تسجيل أغنية واحدة أحيانًا يتطلب 15 يومًا من العمل، إذ إنّ المونتاج لم يكن متطورًا كأيامنا هذه".

نهاية عصر ذهبي

اليوم، تحول الستوديو إلى مكانٍ فاقد للحياة. النباتات ملأت حديقته، ومع أنّ السياج الحديدي مغلق، فإن بابه الرئيسي ترك مفتوحًا، كجروحه. الأبواب الخشبية، الجدران العازلة للصوت، أجهزة الإضاءة، كلها اقتلعت. أمّا قطع الأثاث النادرة التي نجت من السيول، فقد تكدّست على المدخل. على الأرض، بعض "الصور السالبة" الملقاة بين نفايات مختلفة. في الدور السفلية، وفي المختبرات، لا أثر للحياة، سوى هيكل عظمي يعود على الأغلب إلى كلب. عند منعطف الرواق تقبع بعض معدات التصوير والإضاءة، الثقيلة جدًا على من يريد نقلها، تصارع النسيان والزمن. ففي العام 2010، كاد يختفي كل شيءٍ جراء عملية الهدم المقررة من قبل مالكي الستوديو، بنك إنترا، إلا أن العملية توقفت بموجب قرارٍ من وزارة الثقافة صدر بتاريخ 29 أبريل 2010، قبل أن تحال المسألة لاحقًا إلى المحاكم.

لم يتغير مكتب "غازي مرعي" الذي لا يزال يشغل منصب مدير ستوديوهات بعلبك، في الطابق الثالث من بنك إنترا، منذ العام 1960. لا يتردد غازي في استحضار ذكريات الستوديو: "بعد نهاية الحرب الأهلية في العام 1993، قمنا بإعادة فتح الستوديو تحت رعاية السيدة الأولى حينذاك منى الهراوي، وقد أعربت السفارة الفرنسية عن استعدادها لتمويل عملية شراء معدات جديدة، إلّا أن وزارة الثقافة لم تتابع الموضوع. سريعًا، تكبّد بنك إنترا الخسائر جرّاء الستوديو، لذلك قررنا إغلاقه في العام 1995 ومن ثم هدمه في العام 2010".

قبل أشهرٍ على الإغلاق الرسمي للستوديو، اكتشف المخرج هادي زكاك المكان لأول مرّة: “شعرت أنني أدخل كهف علي بابا، وكأن المكان قد توقف فيه الزمن. شعرت بأنه عجوزٌ يعيش في ذكرياته، ولكن عندما حاولت المعدات العمل، أعلن الصمت وفاة ذلك العجوز”. في شباط 2010، حصلت مجزرة في الذاكرة اللبنانية، يقول زكّاك “وكأننا قررنا الدوس على قبر ذلك العجوز. تدمير الستوديو، أشبه بحذف فصلٍ من تاريخ هذا البلد".

مع نهاية فبراير 2010 تولى فريق محترف إخلاء المكان وبيع المعدات من أجهزة إضاءة وكاميرات وأدوات مكساج وأرشيف وأثاث وغير ذلك. لاحظ القيمون على إخلاء المكان اهتمام المشترين الذين كانوا بأغلبهم من الوسط الثقافي اللبناني، لذلك وصل الأمر بعمال النقل إلى إحضار قطع أثاث من محال الأدوات المستعملة، وإيهام الشارين أنها من الستوديو.

ستوديو بعلبك - Studio 2010 - Umam (3)

ستوديو بعلبك - Studio 2014 (17)

ستوديو بعلبك - Studio 2010 - Umam (4)

الصور لجمعية أمم للتوثيق والأبحاث

سباقٌ مع الوقت لنجدة الأرشيف

كانت "جمعية أمم للتوثيق والأبحاث" في عداد الأوائل الذين أعربوا عن رغبتهم في شراء موجودات الستوديو. خلال مرور لقمان سليم، المؤسس الشريك للجمعية، بالقرب من فندق كارلتون، لفتت نظره شاحنات محمّلةً بالأوراق تخرج من الفندق القديم العائد إلى العصر الذهبي اللبناني. اكتشف سليم عشرات الآلاف من ملفات الأرشيف التي كانت في طريقها للتلف، فقرر نقلها إلى مقر جمعية أمم في منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية. في 27 فبراير 2010 أبلغ العمّال الذين تولّوا إخلاء فندق كرلتون سليم بأنهم سيهدمون ستوديوهات بعلبك.

تقول "مونيكا بورغمان" المؤسسة الشريكة الثانية للجمعية: "قررنا عندئذ شراء الأرشيف من اللفائف إلى المستندات الورقية ودفعنا ثمنها مبالغ باهظة. عندما وصلنا إلى المكان كانت مستندات الأرشيف منتشرة في كل أرجائه. اللفائف كانت في الخزائن، وقد أخذنا كل ما استطعنا أخذه، حتى ما كان في سلال النفايات".

غنيمةٌ قيّمةّ تلك التي حصلت عليها الجمعية. أوراق لا تقدر بثمن والعشرات من المصنّفات التي تحتوي على معلومات عن جميع الأفلام التي تم إنتاجها في الستديو: “بدوية في باريس”، “شوشو والمليون”، “بنت عنتر”، “كلّنا فدائيين”، “بنت الحارس”، وغيرها من الأفلام. من بين المستندات أيضاً مراسلات بين المخرج يوسف شاهين والكاتبة أندريه شديد وبديع بولس، وبرقيات متبادلة مع شركة غومومن Société Gaumont ورسائل احتجاج على التأخير ولوائح بالمشتريات ورسائل من المنتج الهوليودي وينتروب Weintraub، أحد كبار منتجي شركة بانافيزن Panavision، ولوائح بأسماء موظفي الستوديو وملاحظات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغير ذلك.

ستوديو بعلبك - SONY DSC

ستوديو بعلبك - Archives de Umam (7)

الصور لجمعية أمم للتوثيق والأبحاث

ستوديو بعلبك - SONY DSC

بكاميرا دلفين دارمنسي، من أرشيف "ستوديو بعلبك" الموجود في مستودعات "بنك إنترا"

إضافةً إلى هذه المستندات، احتوى الأرشيف على حوالى 800 لفيفة من الأفلام الروائية إلى المسلسلات والأفلام الوثائقية ونشرات الأخبار وحتى الأفلام الدعائية. إنه كنز ينتظر التمويل في شقة في بدارو. تقول بورغمان: "إننا في سباقٍ مع الزمن. إنه لمن الرائع أن نستطيع إنقاذ هذا الأرشيف ولكن المسألة بالنسبة لنا مسؤولية كبيرة. نحن لسنا ملّاك هذا الأرشيف بل نحن نعتني به. لا بد من أن نحوّله إلى أرشيف رقمي قبل أن يتعرض لضررٍ أكبر. أملي الوحيد اليوم هو الحصول على التمويل اللازم لإرساله للخارج. فالمعدات المتوفرة في لبنان قد تلحق الضرر به".

على الرغم من أنّ بعضًا من الأرشيف غير قابل للقراءة، فإن البعض الآخر يخفي مفاجآت. في العام 2011، كان فريق يعمل على اللفائف في الشقّة التابعة للجمعية في محلة بدارو، عندما طرق الباب جارٌ من الشقة المقابلة يهتم بالأفلام القديمة. كان هذا الجار "فيليب عرقتنجي"، المخرج اللبناني لفيلمي “البوسطة” و”تحت القصف”. اقترح عرقتنجي نقل خمس لفائف إلى باريس وترقيمها، فنجا منها ثلاث فقط، من ضمنها صور غير منشورة بالأبيض والأسود للبنان، التقطها ألماني من على متن منطاد في العام 1972.

غياب واضح لوزارة الثقافة

لم يعلم غازي مرعي من بنك إنترا عن هذا المشروع إلا في شهر يوليو أثناء تصفحه جريدة "الأخبار" اللبنانية: "لا أعلم كيف استطاعوا الحصول على هذ الأرشيف! فذاكرة ستوديوهات بعلبك لا تتجسد بالمبنى بل بأرشيفه". يتوجّه إلى رف مخصص لستوديوهات بعلبك ويجذب رسالةً يعود تاريخها إلى 8 مارس 2010 مرسلة إلى وزارة الثقافة، وتفيد أنّ بنك إنترا يرغب بتقديم الأرشيف ومعدات الستوديوهات إلى الوزارة. "أنتظر جوابًا من الوزارة منذ أربع سنوات. إذا ما أتى أحدٌ من الوزارة، فسأعطيه الأرشيف الذي أملك"، يقول مرعي.

في الأدوار السفلية للمصرف يقبع إرث ستوديوهات بعلبك. مئات اللفائف الصوتية والصور تُتلف. تحت طبقات الغبار صورٌ لعظماءٍ كوديع الصافي وفيروز وصباح. إلى اليوم، لم يقم أحد بإحصاءٍ دقيق لمعرفة موجودات أرشيف مصرف أنترا، الذي ليس المالك الفعلي لكل الأرشيف. إن كان غازي مرعي يحتفظ بنسخة عن كل ما تم تسجيله في تلك الستوديوهات، فلا تحتوي مستودعات المصرف اليوم إلّا القليل منها.

ستوديو بعلبك - SONY DSC

ستوديو بعلبك - SONY DSC

بكاميرا دلفين دارمنسي، أرشيف ستوديو بعلبك الموجود في مستودعات "بنك إنترا"

بحسب المستندات التي حصلت عليها جمعية أمم، يتّضح أنه في 19 فبراير 1976، طالبت الشركات التي صورت أفلاماً فلسطينية في ستوديو بعلبك من القيمين على الستوديو إرجاع كل ما تم تصويره فيه. يقول منير معاصري: "في تلك الحقبة، لم يكن لدى المنتجين أماكن ذات حرارةٍ مناسبة لحفظ الأفلام، لذا كانوا يحفظونها في الستوديوهات، وكان في ستوديو بعلبك مستودعان. الأول كان محروسًا أيام الحرب الأهلية من قبل الجيش السوري الذي احتل المكان. في سبيل التسلية، كان الجنود يرمون اللفائف من أعلى بولفار سن الفيل ويراهنون على أي من اللفافات تصل إلى نهاية الشارع أولاً. لحسن الحظ كان المستودع الثاني معزولًا في الطابق الأوّل ومموهًا، مما جعل العثور عليه صعبًا لمن لا يعرفه. ومع نهاية الحرب، طلب ملّاك الستوديو من أصحاب اللفائف القدوم لاسترجاعها".

بقي حوالى ألف لفيفة في الأدوار السفلية للمصرف، لا يُعرف من هم مالكوها. وهي مشكلة تواجهها جمعية أمم أيضاً. تقول بورغمان: "لا نعلم من يملك اللفائف التي بحوزتنا، مما يصعّب عملية تبنيها من قبل المؤسسات الحكومية كالمعهد الوطني للمرئي والمسموع في فرنسا. ولكن إذا ما سعينا وراء أصحابها، سيكون الوقت قد فات على هذه اللفائف التي من الممكن أن تتحلل. لذلك لا بد من استجماع جهودنا للحفاظ على هذا الإرث".

الجهات الحكومية بعيدة كل البعد عن إظهار اهتمامها بإرث ثقافي كهذا، فالذاكرة الموسيقية والسينمائية اللبنانية لا تهم السلطات. في غضون شهرين من السعي، كان من المستحيل الحصول على موعد مع الوزير المعني أو الحصول على تفسيرٍ بسيط من اللجنة العامة للآثار. إنها لا مبالاة تستدعي القلق. بحسب غازي مرعي، ربح مصرف إنترا الدعوة ضد الدولة بسهولة منذ سنتين. وهو اليوم حر في التصرف بمبنى سن الفيل بالطريقة التي يراها مناسبة. “ستوديو بعلبك لم يعد موجوداً. أما عن أرشيفه، فلن يتغيّر شيء، لأن اللبنانيين غير معنيين بتراثهم”.

الصورة الرئيسية بكاميرا دلفين دارمنسي


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard