شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الكتابة الشخصية: الخوف من الكشف والانكشاف

الكتابة الشخصية: الخوف من الكشف والانكشاف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 10 أغسطس 201711:30 ص
يبدو أن الحاجة للكتابة الشخصية تزداد يوماً بعد يوم. ويبدو أن لا مفر من ذلك. كذلك لا داعي لإنكار الأمر أو تأجيله. أمارس الكتابة منذ عام 2006، ولم يُحالفني حظي للكتابة عن نفسي إلا نادراً. أنا أخاف. أخاف من الكتابة رغم أنني أحبها. أخاف إن كتبت شيئاً خاصاً أن تكون مُشاركته على العلن مجرد نتيجة لشيء ما، وليست رغبة في المشاركة. أخاف أن أُفصح عمّا بداخلي. أخاف الوصم وأخاف اللوم وأتجنبهما. الكتابة كاشفة، وأنا أخاف أن أنكشِف، أن أتعرّى، وأن أتراءى دون أقنعة. أخاف أن ما أكشفه سيُمكّن أحدهم منّي، أو يوحي لآخرين كيف يتعاملون معي. أخاف أن أرفع الستار عن هشاشتي، وعجزي، وقلة حيلتي. عن لحظاتٍ مضت، ولا أريد استرجاعها بأي شكل، لأن ما تم قد تم. ولاقتناعي أن الحكي لن يُغير ماضياً، ولكنه قد يُشكّل مُستقبلاً. ولأني لا أريد أن أبني المستقبل إلا على ما وددت الاحتفاظ به من الماضي، لا أُشارك هذا الماضي مع آخرين. أنا أكره الماضي، جميلاً كان أو قبيحاً. أكرهه صدقاً وعدلاً. وأعدُ أيامي، كزائرة في مدينة مزدحمة، تمتن بكل خطوة إلى محطة القطار. أو كتلميذة بليدة، تذهب للمدرسة يومياً لأن كل يوم يُقربها من نهاية العام الدراسي. ولأن كل يوم، بتفاصيله المرهقة، يشغلها عن التفكير في كم هي مُستهلكة. في البداية، خفتُ أن تقع دفاتري الكتابية في يد أسرتي. فكتبتُ عن أشخاص لا أعرفهم، وعن حكايات لا تمُسني. وبعد انخراطي في الشأن العام، زاد تحفظّي تجاه الكتابة الشخصية، رغم أن أكثر كتاباتي انتشاراً كانت تلك التي أتحدث فيها عن تجاربي الخاصة. هذا الانتشار لم يدفعني قط للاستمرار في الكتابة الشخصية أو انتهاجها، بل قطعني عنها. لكني اليوم مُستنزفة للغاية. ولا أعلم هل كانت رغبتي في الكشف والانكشاف حقيقية أم وليدة لحظة يأس.

الكتابة عن الذات

الكتابة عن ذواتنا صعبة. بجانب الانكشاف، فمحاولات تفكيك الدوافع وكتابتها بالفعل مُعقّدة. حين أكتب، أقدم جزءاً من روحي للجمهور يتفاعل معه. وكم يُخيفني هذا التفاعل. فحين أكتب نصوصاً عن قضايا عامة، يتفاعل الجمهور مع المكتوب. لكن، عندما أكتب عن نفسي، فالتفاعل سيكون مع هذه النفس ومع ما تم كَشفُه منها. أنا مُنهكة وغير قادرة مطلقاً على هذا التفاعل مع ذاتي. أنا بالكاد أتعامل معها. لا أريد أن أُبرر، أن أشرح، أن أوضّح لماذا أتصرف هكذا أو أفكر هكذا. أهرب من الاضطرار إلى رد الكلمات التشجيعية، وبتعبيري عن الامتنان لاستقبالها. أنا لا أمتن لخوضي صراعات لم أقرر خوضها بإرادتي الحرة. وسئمتُ التعبير عن شجاعتي أو جزعي. والجمهور دائماً يبحث عن حكاية مُثيرة، ملأى بالدراما والأحداث. هذا يضعني في مأزق الصياغة والتركيز على نقاط دون أخرى.
الكتابة الشخصية كاشفة، وأنا أخاف أن أنكشِف، أن أتعرّى، وأن أتراءى دون أقنعة...
أنا غاضبة من أن أكثر حكاياتي إيلاماً غير صالحة للنشر والتداول

الكتابة من رحم الانفعال

أؤمن أن أكثر كتاباتي تأثيراً وصدقاً هي التي كتبتها في لحظات انفعال. تلك التي تداخلت فيها الكلمات بالمشاعر فنقلت صورة حيّة لما يدور في ذهني. ولكني أميل للسكون. والانفعال المقصود هو التعاطي بحماسة مع شيء ما، بغض النظر عن كونه سلبياً أو إيجابياً. أنا منفعلة أغلب الوقت لأني مُتعايشة مع اضطراب القلق المزمن، لذلك لا أعبّر دائماً عن انفعالي بسهولة. ولأن الأمر سيصبح هيستيرياً إن عبّرت عن كل انفعال، ألجأ للصمت. تتقلص رغبة البوح لديّ مع كل أزمة. وأتوقع أن يمل المتابعون لكتاباتي على مواقع التواصل الاجتماعي، شكواي المستمرة. هؤلاء دائماً يُفاجئونني بالتفاعل مع أي محتوى شخصي أشاركه معهم. لستُ متأكدة من دور خوارزميات فيسبوك في نشر هذا النوع من المحتوى أكثر من غيره، تشجيعاً للمُستخدمين واستمراراً للبزنس. ولكن أكثر القراءات قُرباً للنفس هي المكتوبة من نفس أخرى. في أوقات أخرى، أشعر بالابتزاز، لأن ما أتعرّض له بشكل شخصي لا أقدر على جعله محتوىً عاماً بسبب حساسيته. ولأن السياقات مهمة، فأغلب كتاباتي الشخصية لا تُناسب السياق والتوقيت. ويزداد ذعري كلما تذكّرت أن أحدهم لن يهتم بالمكتوب، قدر الاهتمام بتبرير سياق حدوثه أو دوافع المُنخرطين فيه.

بين الذات والآخرين

أتخوّف كثيراً من أن واقعي ليس ملكي بمفردي، ومن أن أي حكاية شخصية بالضرورة ستنعكس على آخرين في مُحيطي. ولأني لا أجرؤ على طلب الكتابة عن واقعي المُتداخل مع واقعهم، أنا غاضبة من أن أكثر حكاياتي إيلاماً غير صالحة للنشر والتداول. لذلك، لن تكون الكتابة شافية كما أرغب. في بعض المواقف، تكون الكتابة مُضرّة أكثر مما تَنفع. ويكون كتمانها في هذه الحال دعوى صريحة لكتابتها ونشرها، كمحاولة للتجاوز. الأمر ما زال مُعقّداً. فالكتابات المُنعكسة على آخرين دائماً ما يوجد لها جوانب خفيّة. أتجنبها حتى لا أقدم للقرّاء حكماً جاهزاً على آخرين لمجرد تورطهم في الأحداث. الجمهور يبحث عن بطل، عن حلم يتحقق، أو مأساة معيوشة، ما يضطرني أحياناً للحرص في الكتابة. وليس هذا ما أرغبه. أرغب في الكتابة بتجرّد، وأحسد القادرين على ذلك. أريد أن أتحرر بالكامل، والكتابة تُحرر أفكاري، لكنها تُقيدني أنا. ما أفعله الآن هو محاولة للوقوف على مخاوفي من الكتابة الشخصية. على الرغم من أن هذا النص يُعد كاشفاً للكثير، فإن هناك المزيد مما لم يجد وسيلة لأن يُكشف بعد. بابٌ جديد للكتابة، أفتحه الآن للاشتباك مع نفسي أولاً ثم مع الجمهور.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard