شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في فلسفة حجب الصحف: «أبناء الهامش» والحق في المعرفة

في فلسفة حجب الصحف: «أبناء الهامش» والحق في المعرفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 1 يونيو 201706:45 م
*نحن أبناء الهامش، منه خرجنا، ومنه سنظل نخرج*

بهذه الجملة انتهى بيان «مدى مصر»، وهو موقع صحافي مصري مستقل، عن قيام السلطات المصرية بحجب الموقع، ضمن 21 موقعاً إلكترونياً في 24 مايو 2017. بدعوى أن هذه المواقع "تتضمن محتوى يدعم الإرهاب وينشر الأكاذيب".

من الوهلة الأولى بدا لنا أن الهامش، بإضافة أل التعريف، هو الخط الفاصل بين التيار السائد ككيان مُهيمن وبين كل ما هو مُهمّش بفعل هذه الهيمنة.

في هذا التعريف، نجد الصراع قائماً بين التيار السائد مُتمثلاً في النظام السياسي، وبين الهامش مُتمثلاً في الصحافة المُستقلة. أكثر ما يُميز الصحافة المُستقلة هو ثلاثية: الكاتب، والقارىء، والموقع كقناة وصل. بالتفاعلية، تُتيح الصحافة المُستقلة الفرصة لإنتاج محتوى معرفي تشاركي بين الثلاثة.

الحق في المعرفة وتهديد دولة السيادة

ما يقدمه هذا الفرع من الصحافة المستقلة والتشاركية، هو إنتاج معرفي من نوع مختلف. مختلف لأنه يُتيح المعرفة على أسس واضحة من المهنية والموضوعية؛ لذلك يختلف عن صحافة التيار السائد من إعلام الدولة ومعاونيها، الذي يعتمد على التلقين والمعلوماتية الموجهة. والأخير يعتبر ذراعًا من أذرع هيمنة الدولة التي تحدد هوية المواطن كمُتلقٍ، وليس كطرف فاعل. نوع واحد من الإعلام يساوي نوعًا واحدًا، من المواطنين، يساوي جهداً أقل في إحكام قبضة الدولة ومؤسساتها.

لهذا تُمثل الصحافة المُستقلة تهديداً حقيقياً للنظام السياسي، لأنها تُتيح فرصة الاطلاع ليس فقط على المعلومة، وإنما على مناظير تحليلية وزوايا مختلفة لقراءة المعلومة في سياقها وربطها بمعلومات أخرى.

هنا، قد تُساهم هذه الإتاحة المعرفية في تشكيل هوية المواطن عن طريق التفاعل مع المعرفة، وتداولها، والبناء عليها. هنا، تقطع الصحافة المُستقلة طريق الإعلام الدولاتي الموجّه، مُسببة إزعاجاً واضحاً لدولة السيادة. هذا الإزعاج يأتي في صورة شعور بالتهديد، وليس الخوف، وشتّان.

دولة الاستثناء: الإرهاب كمُبرر للقمع السياسي

الخوف مُلازم للعجز أحياناً، قد نخاف ولا نتحرك لنأخذ رد فعل، وقد يدفعنا الخوف لأخذ رد فعل دفاعي. أما التهديد فهو مُلازم للحدة غالباً. وقد يدفعنا التهديد لأخذ فعل هجومي واستباقي.

ما تشعر به السُلطات المصرية ويدفعها للضربات الهجومية الاستباقية للصحافة المُستقلة هو التهديد. تحتكر السلطة المصرية تعريف: "ما هي حالة الاستثناء"، التي صنّفت فيها الفئات المُسببة للتهديد كفئات خطيرة أمنياً. مُحاولةً بذلك شرعنة العنف تجاه هذه الفئات، مُستعينةً بالخطابات الرسمية والإعلام الموجّه.

أما حالة الاستثناء، فهي الحالة التي تكون فيها مؤسسات الدولة مُتأهبة لصد ما تعتقد بأنه هجوماً على سيادتها، والعنف فيها سيد الموقف. يُمارس هذا العنف تجاه أي عنصر يتم تصنيفه كمصدر تهديد.

وجَرت العادة أن تحول الأنظمة السياسية هذه الحالات من الاستثناء إلى حالات دائمة مثل "قانون الطوارىء" في عهد مُبارك، أو "الحرب على الإرهاب" في عهد السيسي، وتتخذ منها مُبرراً لتصفية الخصوم السياسيين. لتتحول بذلك "حالة الاستثناء" إلى "دولة الاستثناء".

الأزمة الحقيقية هي أن حالة الاستثناء وصلت ذروتها في يونيو 2013، بإعلان سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وما زلنا نعيش حتى اليوم تحت وطأة الاستثناء (الحرب على الإرهاب) وكأنه القاعدة. في ما يكون العنصر الإرهابي هو حجر أساس لاستمرار هذه الحالة. كيف تستمر الحرب على الإرهاب، دون إرهاب؟

فالإرهابي قد يكون خطراً أمنياً، قاتلاً أو انتحارياً، وقد يكون مُنتمياً لتيار سياسي تستهدفه الدولة كخصم، وقد يكون كياناً حقوقياً يفضح إنتهاكات الدولة، أو موقعاً صحافياً مُستقلاً، وقد يكون ماراً بالشارع، أو مجرد مواطن نائم في منزله.

باختصار تعريف الإرهاب الذي تتبناه الدولة هو تعريف فضفاض، يهدف لضم أكبر عدد ممكن من خصومها تحت مظلة الإرهاب لضمان ممارسة عنف ضد هؤلاء الخصوم دون مُساءلة. ومن ثَمّ، فإن مجرد التفوّه بلفظة "إرهاب" قادر على تحويل أي عنصر إلى عنصر خطير أمنياً، تتم ملاحقته ويُمكن تصفيته.

الإنتاج المعرفي: الشرعية من الهامش إلى ما وراءه

والأزمة الأخرى، هي الاعتقاد بأن "تصنيف" عنصر ما بأنه إرهابي، يسحب منه صفة الشرعية. في دولة الاستثناء يونيو 2013، قدّم الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه كمُنقذ ومُخلِّص. ونتيجة لهذا الدور الحمائي، احتكر مفهوم المشروعية، فأصبح ما يقبله مشروعاً، وما لا يقبله غير مشروع.

والشرعي يكتسب شرعيته من وجوده، بينما يكتسب المشروع شرعيته من قبوله. في قبول السيسي لهذا أو رفضه لذاك، يتحول الشرعي إلى مشروع، بفضل هيمنة النظام السياسي وخطاباته الرسمية والمؤيدة.

هنا، تعتبر آلية الحظر تحريكاً من فئة المشروع إلى فئة غير المشروع، ثم إلى المحظور عن طريق سلطة الدولة ومؤسساتها؛ وهو تحريك مرحلي من الهامش، إلى ما وراء الهامش.

ويظل ما هو موجود داخل الهامش مشروعاً، إذا لم يتم نقله إلى ما وراء الهامش، حيث العنف المُبرر. للتوضيح أكثر، وجود فئة ما داخل هامش التيار السائد، لا يسحب من هذه الفئة مشروعيتها، لأنها ما زالت مقبولة في بؤرة الرؤية كفئة مُهمّشة. أما نقلها من الهامش إلى ما وراء الهامش سواء بالحظر أو بالحجب، فيسحب مشروعيتها؛ لأنه يُخرجها حتى من بؤرة الرؤية. ليصبح بذلك، المشروع هو المرئي، وغير المشروع هو غير المرئي.

ما حدث أخيراً من حجب للمواقع الصحافية المُستقلة هو مزج بين التصنيف كداعمين للإرهاب؛ وبذلك تصبح الصحافة المُستقلة عنصراً في دولة الاستثناء وبين تحويل هذا العنصر من مشروع إلى غير مشروع عن طريق الحجب، لسحب صفة الشرعية.

ما قد لا يُدركه النظام الحالي، هو أن الحجب قد يمنع الرؤية ويُعيق إمكانية الوصول، ولكنه أيضاً يجعل من العنصر المحجوب عنصراً مرئياً بشكل مُبالغ فيه لمجرد أنه مُستهدف. سواء اتفقنا أن الرؤية المُبالغ فيها تخدم دولة الاستثناء، أو العنصر نفسه متمثلاً في الصحافة المُستقلة، فإن النتيجة واحدة: الحجب لا يسحب الشرعية.

كما ذكرتُ سلفاً، الشرعية مُكتسبة بصفة الوجود. فإن تواجدنا داخل بؤرة الرؤية أو خارجها، نحمل صفة الشرعية بهذا الوجود، وليس من خلال علاقتنا بالتيار السائد وموقعنا منه.

الأزمة الأخيرة هي أن الحجب يستهدف جمهور الصحافة المُستقلة، كما يستهدف القائمين عليها. يُمكننا اعتبار الحجب انتهاكاً صريحاً لحرية الفكر والتعبير، بالإضافة إلى أنه محاولة لإعادة إحكام قبضة الدولة على الإنتاج المعرفي الذي تُتيحه هذه الصحافة، فيعتبر بذلك انتهاكاً صريحاً للحق في المعرفة.

لذلك، وإيماناً بحق الجمهور في المعرفة، توجّه السياسي المصري د. أيمن نور، برفع دعوى أمام مجلس الدولة المصري للطعن في قرار حجب موقع "الشرق الإخباري". كما تنوي مجموعة من ممثلي مواقع: مدى مصر، مصر العربية، البورصة، ودايلي نيوز إيجبت، تقديم بلاغ جماعي إلى النائب العام المصري للمطالبة بإلغاء الحجب، الخميس 1 يونيو 2017.

ويُذكر أن الهجوم على الصحافة المُستقلة في مصر يأتي ضمن سلسلة من الانتهاكات لحرية الصحافة، وحرية التنظيم والعمل المدني التي تهدف إلى احتكار المجال العام.

في النهاية، فإن المعرفة المُستقلة تُواجه بشكل مباشر الهيمنة المعرفية المنتوجة من التيار السائد، فتُفسح في المجال مجالاً للجمهور من أجل تحديد وجهته بحيادية.

والجدير بالذِكر أن المعرفة المستقلة لا تطرح نفسها كمصدر وحيد للمعرفة، فتسحب مشروعية كل ما هو دونها، ولا تُصادر على الهيمنة المعرفية باعتبارها عدواً، ولكن تقابلها في ساحة مفتوحة للمعلومات، تضع حق الجمهور في المعرفة نصب العيون، وتحترمه بالقدر الكافي لئلا تُمارس عليه انتقائية معرفية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard