شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يغار عليّ... يحبّني على طريقته

يغار عليّ... يحبّني على طريقته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 4 فبراير 201710:50 ص
كنتُ أتعجب من الآباء والأمهات الذين يستسلمون لغيرة أبنائهم. الابن يغار على أمه والابنة تغار على أبيها. كنتُ أراها دليلاً على سوء تربية الأبناء و"الدلع" والدلال الذي أغرقهم بها الأبوان فكانت النتيجة سيئة، إلى أن وقعت في الفخ. لم يكن فخًا نُصِبَ لي أو أوقعني به أحدٌ رغماً عني... لكنني توجَّهتُ إليه بكامل إرادتي؛ أحببت... اخترت شريكي، تزوجت، أنجبت... وهنا كانت الضربة القاضية. لو قال لي أحدهم إن ذلك الابن "المفعوص" حجماً وصفةً سيجعلني أقيم له اعتباراً أكثر مما أقيم لأبي، لو قال لي أحدهم إنه سيصبح محور حياتي أكثر مما أكون "أنا شخصياً" محور حياتي.. لاختلف الأمر. كنتُ أجلس إلى جوار زوجي حينما فاجأني "ابني الحسن" بنظراته تلك للمرة الأولى، نظرات نارية ذكرتني حينما كنتُ أجلس إلى جوار أحمد "زوجي" أثناء الخطبة وينظر لنا أبي النظرة المتفحصة المتأملة نفسها. حينها ارتبكتُ الارتباك القديم نفسه، ولكنني تذكرتُ فجأة أنني متزوجة وأجلس في بيتي إلى جوار زوجي "والده" فعدلتُ عن ارتباكي وتجاهلت النظرات تماماً. اقترب مني أكثر فأكثر... وغرس سِنَّيه الصغيرتين في ركبتي حتى انتفضت من مكاني فضحك ضحكته البريئة الجميلة منتصراً ومنتشيًا وموقناً أنه وصَّل رسالته كاملة واضحة. الحسن يغار... لم أستوعب في بادئ الأمر أن مُستقبلات الشعور لديه قد تبلورت بما يكفي لأن يستشعر التملك لشيء ما ومن ثمَّ الغيرة على هذا الشيء من الآخرين. هو لم يبدِ انزعاجاً من ابن خاله مثلاً حين يلعب بألعابه، ولم يضرب ابنة صديقتي حين اتخذت من ألعابه المفضلة أهدافاً تخريبية تمارس عليها سلطتها. لكنه - فيما يخصُّني أنا - يغار. ينتبه بشدة لكل من يقترب مني مُحدِّثاً أو مُحيياً، يترك ما يفعله أياً كان ويجري كالبطريق بطريقته المعتادة ويأتي إلى أسفل قدميَّ ويرفع رأسه إلى أعلى علَّه يفهم أيَّ حديث مما نقول، ثم يتشبث بأطراف ملابسي ولا يتركها إلا عندما أرفعه من الأرض، حينها ينظر إلى من يحادثني بانتصار كأنه يقول: هي لي وحدي وما عدا ذلك شائعةٌ ونميمة.
أدرك أن أباه يُقبِّل أمه على جبينها كلما استيقظ من النوم.. فقرر في هذا اليوم أن يوقف المهزلة ويمنع القبلة
غيرة الابن على أمه وغيرة الابنة على أبيها... من يعاني منها؟
وهذا ليس حال الحسن وحده. فهذه بنت صديقتي المُقرَّبة سَمِعَت من أمِّها جملة "أشرف جوزي بيقول..." فُتِنت الصغيرة بكلمة "أشرف جوزي" وأدركت بحسِّها البدائي أن الجملة توصيف للعلاقة بين أمها وأبيها، فأصبحت "تكيد" أمَّها بتلك الطفولة البريئة فلا تقول "بابا" حين تناديه، إنما تقول "أشرف جوزي أنا عايزة شيبسي"... "أشرف جوزي ماما ضربتني... أشرف جوزي يلا نخرج"... وبين ضحكات مكتومة تنتاب الأم والأب معاً لا يجد الاثنان طريقة مثلى للتعامل مع موقف كهذا. يقول الخبراء التربويون إن غيرة الأبناء على آبائهم أمرٌ طبيعي ومعروف. وعلى عكس ما نفعله جميعاً، يجب ألا يكف الآباء عن التحاور وتبادل الود أثناء وجود الطفل، حتى يشعر الطفل تدريجياً أن هذا الأمر طبيعي ومحبب إليه. ويجب أيضاً إشراكه في التحاور معهما حتى لا يشعر بالإقصاء وأن قرب أحدهما من الآخر يأتي على حساب قربهما منه وحبِّهما له. يجب كذلك ألا يبالغا في إظهار هذا الحب بشكل "يغيظ" الطفل أو ينفره منهما، فالاعتدال في كل شيء مطلوب. كنتُ في زيارة لإحدى صديقاتي وكان زوجها نائماً، وبمجرد استيقاظه وخروجه من غرفته سمعنا ابنهما الصغير "4 سنوات" يبكي ويصرخ لدرجة أفزعت الأب وجعلته يأتي إلى غرفة الصالون أشعث الشعر يرتدي ملابس النوم، وكلما اقترب منَّا علا صراخ الابن وجرى إلى أمه ووقف أمامها وفرد ذراعيه كأنما يحجب أباه عنها. ظل المشهد هكذا لعدة دقائق. الأب يقترب، الابن يصرخ ويفرد ذراعيه بين أبيه وأمه، والأم تقف خلف الطفل تضحك بشكل هستيري، وتسمَّرتُ أنا مكاني بين دهشة وصراخ وضحكات مُريبة، إلى أن فطنَّا جميعاً إلى بيت القصيد. فلقد أدرك الطفل أن أباه يُقبِّل أمه على جبينها كلما استيقظ من النوم فأصبح استيقاظ الأب إيذاناً باقتراب القبلة الموعودة، فقرر الطفل في هذا اليوم أن يوقف هذه المهزلة ويمنع القبلة. لا أظن أن هناك أحداً - من آباء أو أمهات - من ينكر استمتاعه اللحظي بغيرة الأبناء عليه، رغم أننا نصبح أسرى لهذه الغيرة فيما بعد لكننا في البداية نفاجأ ثم ننبهر ثم يروقنا الشعور ثم نحاول أن نقلعهم عن هذا السلوك. وتظل تلك المواقف التلقائية البريئة عالقة بأذهاننا نحكيها لهم كلما كبروا وكلما حملتهم أرجلهم بعيدًا وأصبحوا بالكاد يستسلمون لأحضاننا لدقائق معدودات. لذا قررتُ أن أدعه يغار، أدعه يحبني على طريقته، وأجعله يحفظ عن ظهر قلب أن يدي اليمنى حين تحتضن زوجي تنغلق على يدي اليسرى التي تحتضن هذا الصغير "المفعوص"، أحتضنهما معًا ليغارا عليَّ معًا.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard