شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قصة قصيرة: أوتيل أغاثا كريستي

قصة قصيرة: أوتيل أغاثا كريستي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 15 يوليو 201602:57 م

.1.

كان يوماً عادياً في ربيع 2008، عندما رنّ هاتفي وسألني أحد الأصدقاء ما إذا أريد أن أشاركه في السكن مع صديق آخر. كان ردّي إيجابياً. رفض أن يخبرني عن التفاصيل على الهاتف. فضّل أن نلتقي لنتحادث. لاحقاً عرفت لماذا فضّل اللقاء الشخصي. إذ لن ننتقل للعيش في شقة في بناية ما، بل سننتقل للعيش في غرفة صغيرة في أوتيل أغاثا كريستي في أحد متفرعات شارع الحمرا، في منطقة رأس بيروت. المبنى قديم، ربما، يعود إلى منتصف خمسينيّات القرن الماضي. يتألف من خمسة طوابق. شكله الخارجي غير مرمم. لونه داكن، ويوحي بأنه ما زال فندقاً يعمل في السبعينيات. هو مبنى عالق في لحظة ما في التاريخ ويرفض تخطيها والعبور إلى الحاضر. في هذا الفندق، الحاضر هو ليس سوى انتظار لحدث ما سيحدث، ولن يحدث. غياب الحاضر هو غياب للمستقبل أيضاً. هذا ما شعرت به عند دخولي إلى الفندق. شعرت بثقل ما. ربما ثقل التاريخ. تلك اللحظة الكثيفة التي علق بها المبنى ونزلاؤه، وقد يكون الثقل مصدره فكرة التحوّل إلى نزيل في فندق ينتمي إلى روايات أغاثا كريستي. في بهو الفندق الذي لا يتّسع لأكثر من ثلاثة أشخاص، شعرت بأنّي أتخذت القرار مسبقاً بالعيش هنا. الثقل الذي تسلل إلى أطرافي لم يعد مزعجاً، بل أصبح مصدر لرغبة عميقة لأنتقل إلى هذا المكان الذي تسكنه الغرائبيّة. هل هذا ما أردته لنفسي عندما كنت في السادسة عشرة من عمري؟ اليوم، وبعد مرور ثماني سنوات على تلك التجربة، أجلس على كنبتي في مدينة الرمل والزجاج، وأعتقد بأنّ ذلك كل ما كنت بحاجة إليه في تلك الفترة. حينها، كنت بدأت العمل بعدد من الصحف البيروتيّة. وموقع الفندق ساعدني كثيراً لأكون قريباً من مكاتب الصحف، ومن المشهد العام للأوساط الشبابيّة والجامعات. وهذا ما سهّل حركتي وانتقالي. كما أنّ السكن في فندق كهذا هو أن تكون في قلب مشهد غير مرئي للمدينة. وهذا ما يعني أن يكون لك دوران. الأوّل يعرفه الجميع وكل من تلتقيهم في الشارع، وآخر تتشاركه فقط مع نزلاء الفندق.

.2.

أخذنا عامل الفندق الخمسيني، هو واحد من أربعة، إلى الغرفة التي من المفترض أن نسكنها. لم يكن لديه شيء ليقوله سوى أنّ الملاءات سيتم تغييرها بشكل دوري، وسلة المهملات ستفرّغ كل صباح. عندما فتح باب الغرفة، نسمة من الرطوبة لمست وجوهنا. هي رطوبة لا تنتمي إلى أيار 2008، بل إلى السبعينات التي لم يتسنٓ لي أن أعيشها. اختلطت الروائح. أنا وصديقيّ تصرفنا وكأننا لم نشتم شيئاً. لم ننظر إلى بعضنا البعض. تفادينا التعليق على الموضوع. ودخلنا الغرفة بنوايا صافية وإيجابيّة. في تلك الغرفة، كل شيء ينتمي إلى عهد قديم. وكأنّها جزء من زاوية في عرض مسرحي تدور احداثه في العقود الغابرة. يُمكنها أن تكون غرفة لرجل عجوز يحتضر وحيداً على فراش الموت، أم غرفة لأحد الأشخاص سيُقتل انتقاماً لجريمة اقترفها منذ زمن بعيد. تبدو الغرفة مكتظة بالأشياء، ورغم ذلك تشعر بأنّها فارغة من كل شيء، سوى من ثقل الأشخاص الذين قطنوها على مر السنين. لم يكن هناك سوى ثلاثة أسرّة متجاورة، حنفيّة ومغسلة، خزانة غريبة الألوان، مرآة، وبرّاد صغير. لا كنبة أو حتى طاولة. شعرت بالضيق لوهلة. وكذلك صديقيّ. هنا، تدخّل عامل الفندق، ليُخفف عنّا هذا الضيق. ودون أن يتكلم، وكأنّه كان يُخبىء لنا مفاجأة. اتّجه نحو باب البلكون (الشرفة). فتح الباب وأخرجنا إلى بلكون يطلّ على الشارع، ويتّسع لحوالي خمسة أشخاص. لحظتها تخيّلنا السهرات التي يُمكن أن نُقيمها على هذه الشرفة. تغاضينا عن حجم الغرفة، واستحوذت الشرفة بحجمها الكبير على عقولنا. اعطينا العامل موافقتنا. وبعد يومين انتقلنا للفندق. أذكر اليوم الذي أنتقلنا فيه للعيش في تلك الغرفة، إذ كان قبل يوم واحد من دخول ميليشيا حزب الله إلى بيروت في السابع من أيار 2008. حينها، كانت البلاد على شفير حرب أهليّة، والأحاديث اليوميّة كانت تتداول احتمال اندلاع اشتباكات على نطاق واسع في بيروت وخارجها. كل واحد منّا جاء بحقيبة تحتوي على ملابسه. سهرنا في الليلة الأولى على البلكون. شربنا نخب الإنتقال للعيش هنا، وشعرنا لحظتها بأنّنا ندخل مرحلة جديدة من حياتنا. في اليوم التالي، استيقظنا على اتصالات، من أقارب وأصدقاء، تُفيد بانّ الإشتباكات بدأت في أحياء رأس النبع ووطى المصيطبة، حيث تقطن عائلتي، وأحياء اخرى من بيروت. عندها، قررنا أن نغادر الغرفة، التي وصلنا إليها للتو، لنكون مع عائلاتنا. هكذا، ذهب أحد الأصدقاء إلى الجبل، والآخر قرر البقاء في أحد البيوت الآمنة في منطقة رأس بيروت، أما أنا فعدت إلى بيت العائلة في وطى المصيطبة، وأعددت تقريراً لإحدى الصحف عن الأوضاع الميدانيّة في المنطقة. بقيت هناك إلى حين انتهاء جولة العنف في بيروت والجبل. وبعد أسبوع تقريباً، عادت الحياة إلى طبيعتها، وعدت إلى الغرفة لأستأنف حياتي من جديد، وأكتشف عالماً بقيت جوانب منه غامضة حتى يومنا هذا.

.3.

منذ لحظة دخولي إلى الفندق بدأت أفكّر بكل هؤلاء الذين سكنوا في الفندق. من هُم هؤلاء؟ من أين جاءوا؟ والذين سكنوا هنا في السابق، إلى أين رحلوا؟ هل كانوا مثلنا مجرّد شباب يبحثون عن سرير يعلوه سقف بغض النظر عما يُحيط بذلك السرير؟ هل كان لديهم زوجات وأطفال أم أنّ لا ارتباطات لديهم؟ في الطابق الأول، يوجد عيادة "تجميل"، وأضع تجميل بين مزدوجين لأنّها كانت في الواقع مجرّد عيادة لتكبير الصدر والشفاه للنساء. في الطابق الثاني، يقطن بعض الأشخاص الذين لا أعرف عنهم شيئاً. في الطابق الثالث، حيث غرفتنا، وبعض الأشخاص الذين تعرّفنا عليهم لاحقاً. في الطابق الرابع، يتشابه النزلاء مع نزلاء الطابق الثاني، أما الطابق الأخير، فتقطنه ثلاث من بائعات الهوى القادمات من الأردن، أو على الأقل هذا ما أخبروه للآخرين. عند الصباح، قليلاً ما كنت ألتقي بنزلاء الفندق. كانوا يظهرون فقط في الليل، وكأنّ لهم دوراً ليليّاً. أراهم لدقائق معدودة، ثم يتلاشون وراء جدران غرفهم، أو في المطبخ المشترك، الذي دخلته مرتين أثناء إقامتي في الفندق التي امتدت لسنة ونصف تقريباً. في النهار، يعجّ الطابق الأوّل بالزوار. الكثير من النساء يُردن أن يزدن من حجم صدورهنّ وشفاهنّ. في تلك العيادة الصغيرة، الواقعة في مبنى قديم، يمضين القليل من الوقت. يراهنّ عامل الاستقبال في الفندق، وثلاثة من النزلاء على الأكثر، وبعدها يختفين إلى الأبد، ولكن بنهود وشفاه أكبر. كنت ألتقي بهنّ أثناء ذهابي من المنزل أو العودة إليه، خصوصاً عندما تنقطع الكهرباء. هذا في النهار، أما كلما عدت عند المساء إلى غرفتي، كنت اشعر بأني ادخل إلى رواية تنتمي إلى عالم قاع المدينة الغامض. هي عالم روايات "أغاثا كريستي". كنت اشعر بأن لي دوراً في إحدى رواياتها، وبأن كل ما علي أن أقوم به هو أن أكون ذلك الشخص القادم من إحدى الروايات. أثناء عبوري في أروقة هذا الفندق القديم، كان ينتابني شعور بأنّ هناك شيئاً ما سيحدث. في الليل، كان لديّ إحساس دائم بأنّ هناك شخص ما يمشي في الأروقة، وذاهب للقيام بعمل ما. عمل خارج عن القانون. أحياناً، كان يمكنني أن أسمع خطواته. كنت أفتح الباب ولا أجد أحداً. هل هذه روح أحد الذين أنتحروا أو قُتلوا في هذا المبنى في السبعينات؟ ربما روحه ما زالت عالقة في المبنى، وهي تتجوّل في الليل لتتأكّد من أنّ الجميع سيغفو بسلام. أو ربما هي روح أحد القتلة التي لم تشبع بعد، وتبحث عن ضحيّة جديدة. كل ذلك ممكن في "أوتيل أغاثا كريستي". أتخيّل دخول المحقق هرقل بوارو إلى الفندق للتحقيق في مقتل أحد النزلاء. يستجوب عامل الاستقبال أثناء تفتيله لشاربه الكثّ. يسأله عما إذا حصل شيء غريب في ليلة وقوع الجريمة، وعن أية ساعة وجد الجثة. ثم يصعد الدرج ويجوب الممرات ليصل إلى الغرفة رقم 402 في الطابق الرابع. يتفحّص الأرضيّة جيّداً بحثاً عن أدلّة، عن شيء ما يكون قد سقط من جيب القاتل عن طريق الخطأ. يدخل الغرفة. يبدأ بتفحّص الجثّة قبل نقلها إلى أحد المستشفيات. ينظر إلى الكدمات على وجه القتيل. يُسجل ملاحظاته على دفتره الصغير. ثم ينتقل للبحث في محتويات الغرفة علّه يجد خيطاً يقوده إلى القاتل. يجد رسالة في جيب معطف الضحيّة. يضعها في جيبه ليقرأها لاحقاً في منزله. قرب السرير، يجد سكين مطبخ ملطّخاً بالدماء، ربما استخدمه القاتل لقتل ضحيته. يجمع بوارو كل الأدلّة، ثم يُغادر إلى منزله لينسج الخيوط ويخرج بخلاصة حول هويّة القاتل. كل ذلك كان يحصل في "اوتيل أغاثا كريستي". في الليل فقط، تظهر بائعات الهوى الثلاث. متوسّطات القامة. ممتلئات الأجساد. يرتدين فساتين ملوّنة. يضعن الكثير من مستحضرات التجميل لإخفاء بعض من آثار الزمن البارز على وجوههنّ. وكن كلما غادرن الفندق أو عدن إليه، نسمع جلبة ما تُشير إلى حضورهنّ. أولئك الفتيات هُنّ النساء الوحيدات اللواتي سكنّ الفندق. ومن الشخصيات الدائمة الحضور في الفندق، ذلك الرجل الطويل القامة، الذي لم يعترف بعد بأنّه أصلع، إذ أنّ الشعر اختفى وسط رأسه، ولكنه ما زال يُطيل الشعر من الجهة الخلفيّة لرأسه. كان يرتدي ملابس تنتمي إلى السبعينيات، ليس اتباعاً للموضة، ولكنّي أعتقد بأنّ هذه هي ملابسه ذاتها منذ تلك الحقبة. كان يرتدي سلسلة ذهبيّة عريضة في رقبته، ويحمل حقيبة جلديّة سوداء صغيرة لا تفارق يديه، وإضافة إلى ذلك، كان يدّعي بأنه صحافي. أحياناً، يُخيّل إليّ بأنّ هذا الرجل لم يكن موجوداً، وأنّ مخيلتي خلقته ليُناسب المشهد العام للفندق. لا أذكر بأنّ كان له إسم أو حتى اسم للصحيفة التي يعمل بها. كان أشبه بشبح، وأذكر أنّ ذلك العامل في الفندق لم يكن يحبه كثيراً، إذ كان يتأخر في دفع الايجار الشهري لغرفته. في الليالي التي كنت أعود فيها باكراً من العمل ورفيقاي في السكن ليسا في بيروت، كنت أغادر غرفتي وأنزل إلى بهو الفندق الضيّق لأتحادث مع عامل الاستقبال الخمسيني الذي كان عادة ما يجلس هناك ويُشاهد البرامج السياسيّة على تلفزيون أبيض وأسود. هناك، كنت ألتقي بذلك الرجل الطويل القامة. هذا الرجل ربما كان موجوداً وصحافياً كما ادّعى، ولكن أعتقد بأنّه يعمل في صحيفة ما صدرت في السبعينات، ونحن لا نعرف عنها، ويقرؤها فقط الذين ما زالوا يعيشون في تلك الفترة دون أن يعرفوا بأننا دخلنا الألفيّة الثالثة. وهذا ما يجعل منه كائناً أساسياً في أوتيل "أغاثا كريستي". هو عالم فنتازمي ذو بُعدين: الأول، صباحي مليء بنساء ينتمين إلى عالم ملّون وغريب تُضيئه خيوط الشمس المتسرّبة بصعوبة إلى داخل الفندق، وآخر، مسائي مليء بالشخصيات الغريبة التي لديها موقعها في الرواية، تُضيئه الإنارة الخافتة للفندق. هذان البُعدان يفصل بينهما الوقت الذي أمضيه خارج الفندق. لحظة خروجي من الفندق هي الخروج من العالم الفنتازي والعودة إلى الواقع، إلى المدينة التي يعرفها الجميع. ألتقي بأناس يُمكن أن يصنّفوا "طبيعيين" و"عاديين". أمضي وقتي في الشارع، متنقلاً بين أماكن مختلفة.

.4.

عباس، هو أكثر الكائنات النهارية في الفندق التي أذكرها. عباس ذلك الشاب الذي كان في أواخر عشرينياته. هو ليس من قاطني الفندق، إذ يعيش في أحد أحياء الضواحي الجنوبيّة لبيروت. يأتي فقط عند الصباح ليقوم بتنظيف الغرف وتبديل الشراشف وسلات المهملات. هو رجل ضخم الجثة، قويّ البنية، متزوج وله ثلاثة أولاد، ولكنّ ذلك لم يعنِ لعباس الكثير. بعد مرور شهرين على سكننا هناك. بدأت أتبادل الأحاديث مع عباس. ومرّة بعد أخرى، بدأ يُشارك بعضاً من الجوانب الغامضة لعالمه الذي يبدو للوهلة الأولى بأنّه بسيط: رجل في أواخر عشرينياته. متزوج ولديه ثلاثة أطفال، ووظيفة لا بأس بها. كان عباس معجباً بالممرضة القادمة من الجبل، والتي تعمل في المستشفى ذاتها التي يعمل فيها عباس، والقريبة من الفندق. كان يُريد الحصول على انتباهها والتقرّب منها، ولكنه بالنسبة لها رجل غير مرئي، مثله مثل الملايين من عمال التنظيفات الذين نادراً ما يلحظهم أحد. وهذا ما زاد من أرق عباس. "كيف بدي خليها تعرف؟"، لطالما سألني عباس هذا السؤال. عندها أردت أن أساعده بطريقة ما. -"معك رقم تليفونها؟" سألته. -"لأ. بكرا بجيب الرقم"، قالها بلهجته الجنوبيّة البارزة. وهذا ما حصل. بعد عدة ايام، جاء عباس إلى الغرفة وايقظني عند الساعة السادسة صباحاً. وهذا ما أزعجني كثيراً، إذ كنت أكره الاستيقاظ عند الصباح الباكر. -"عباس، شو في خيي؟"، سألته. -"جبت رقمها"، أجاب. عندها كتبت رسالة نصيّة قصيرة، وقام عباس بإرسالها لها. أخبرني حينها أنه قام بإرسال عدد من الرسائل لها، ولكنّها لم ترد عليه. وذهب عباس. في اليوم التالي، أيقظني عباس عند السادسة صباحاً. تكرر المشهد ذاته. ولكنّ عباس في هذه المرّة كان أكثر حماساً. -"شو في يا عباس؟"، سألته. -"ردّت عليي"، أجاب. -"شو قالت؟" -"قالت لي، إنها أحبّت شو كتبت لها مبارح". -"منيح يا عباس"، قلت. - "بدنا نكتب رسالة تانية". وهذا ما حصل. كتبت رسالة أُخرى لتلك الفتاة. تكرّر هذا المشهد لمدة أسبوع. كل يوم يأتي عباس بحماس أكبر. أصبح ملحوظاً بالنسبة لتلك الفتاة التي لا أذكر ما إذا أراني صورتها على هاتفه أم لا. ويوماً بعد آخر، أصبح أكثر اقتراباً منها، إلى أن جاء يوم وأخبرني عباس بأنّه سيخرج معها في موعد. "الجمعة ضاهرين سوى"، قالها بفرح طفوليّ. وبعدها بدأ عباس بمواعدة تلك الفتاة. فهي وقعت في حبه. وهو كان قد وقع في حبها منذ زمان بعيد، أو على الأقل هذا ما كان يعتقده. هكذا، عباس الذي تعرفت عليه، المتزوج ولديه ثلاثة أطفال، أصبح الآن لديه زوجة وثلاثة أطفال، وعشيقة سريّة. ما حصل مع عباس جعله ينتمي إلى عالم الفندق الذي كان يعمل به. إذ أن لكل شخص في ذلك الفندق جانباً غامضاً، يؤهّله لأن يسكن في الفندق أو يعمل به، ولولا ذلك الجانب، لكان سيكون مبعداً عن ذلك العالم. أو سيكون وحيداً، وغريباً. بعد مغادرتي الفندق في أوائل عام 2010، لم أعد أعرف ماذا حصل مع عباس، إذ لم أره منذ ذلك الوقت. هل ما زال يُواعد تلك الفتاة؟ هل الفتاة كانت حقاً شخصيّة حقيقية؟ أم اخترعها عباس ليُضيف بعضاً من التشويق على حياته، أم هي شخصيّة من نسج مخيلتي عندما أكون ما بين الوعي واللاوعي عند ساعات الصباح الأولى؟ بكل الاحوال، عباس، زوجته، أولاده وعشيقته اختفوا إلى الأبد لحظة مغادرتي الفندق.

.5.

في إحدى الليالي، عدت متعباً من العمل. كانت العاصفة قد بدأت. قررت التزام الغرفة. صديقاي لم يكونا في بيروت. جلست وبدأت كتابة بعض التقارير التي عملت عليها في الأسبوع الماضي. أردت إعداد فنجان من القهوة لأشربه أثناء الكتابة. في طريقي إلى المطبخ، التقيت بأحد نزلاء الفندق. يبدو من ملامحه بأنه في منتصف الخمسينيات، وبأنه من هؤلاء الذين شاركوا في الحرب الاهليّة، وخرج منها منهزماً. بنيته ما زالت قويّة رغم أنّ التجاعيد تملأ وجهه وكأنه صخرة تآكلت عبر تراكم الزمن. كانت الساعة الثامنة والنصف تقريباً. درجة الحرارة بدأت بالتدني، والمطر لم يتوقف منذ ساعات. صوت الرعد استحوذ على الصمت داخل ممرات الفندق. تحادثنا أنا والرجل الذي لم يذكر اسمه. لم أعد أذكر الكثير من الحديث الذي دار بيننا. أذكر أنّه كان غرائبياً بعض الشيء. أخبرني بعض القصص غير المترابطة. وجدته بأنّه من هؤلاء المصابين بجنون الارتياب (Paranoia)، إذ أنه حاول إخباري بأنّه مُطارد وبانّهم على وشك الوصول إليه. لم أجد معنى لكل ذلك، ولم أحاول إيجاد معنى. هو بالنسبة لي، مجرّد غريب آخر. يجمعنا سقف وجدران الفندق، وهذه أسباب ليست كافية لأكترث لقصصه. أعددت قهوتي، وعدت إلى الغرفة التي بدأت تتحوّل إلى ثلاجة. ارتديت قبعة الصوف الرماديّة التي ورثتها عن جدي وغطيت بها آذنيّ. عند الحادية والنصف أنهيت كتابة التقارير. جلست قرب باب الشرفة، أنظر إلى الشارع الذي لم يمرّ به أحد. أخذت رواية "الطاعون" لألبير كامو من رف الكتب، وبدأت أقرأ به. هذه المرة الثالثة التي أحاول بها قراءة هذه الرواية. حاولت قراءتها قبل سنتين. في المرة الأولى، استطعت قراءة 50 صفحة منها، وبعدها توقفت عن القراءة. ثقلها كان أكبر من الروايات الأخرى التي قرأتها في السابق. قررت تركها، والعودة إليها لاحقاً. في السنة التالية، بدأت قراءة الرواية من جديد. حينها قرأت حوالي 130 صفحة منها، وأيضاً توقفت لاحقاً عن قراءتها. ولكن في السنة الثالثة، استطعت إنهاء قراءة الكتاب خلال ثلاثة أشهر. في تلك الليلة، قرأت عدداً من الصفحات قبل تركي للكتاب، وجلوسي في السرير منتظراً النوم. عند السابعة صباحاً، استيقظت على ضجة غريبة في الفندق. كان هناك أصوات وحركة ناس. لم اكترث، وحاولت الاستمرار في النوم، ولكن الضجة كانت تتزايد كل دقيقة لدرجة أصبح فيها النوم غير ممكن. نهضت من السرير، فتحت الباب، ووجدت مجموعة من عناصر الأمن يقفون في الممر ومعهم موظف الاستقبال وعباس. خرجت من الغرفة، ومشيت باتجاههم. لم افهم الكثير مما كان يقوله العناصر، ولا من عباس الذي كان وجهه أصفر بعض الشيء. كانوا يقفون أمام غرفة الرجل الذي صادفته في الليلة الماضية في المطبخ. اختلست النظر إلى داخل الغرفة، ورأيته. كان غارقاً في بقعة من الدم: دمه. لم استوعب المشهد. عدت إلى غرفتي، وطلبت من عباس أن يمر بي لاحقاً. جلست في سريري بحالة من الذهول. بعد عشر دقائق مرّ عباس بي. بدأ بإخباري ما حدث إذ أنه هو الذي وجد الجثة عند الصباح أثناء تنظيفه الغرف. روى القصة لي ست مرات، عن كيفية دخوله إلى الغرفة، اللحظة الأولى التي رأى بها الجثة، والخطوة التالية التي قام بها. في كل مرة، كان يزداد انفعاله أثناء سرده للقصة. كان يُحاول ان يخلق اسطورة لنفسه. وهذا ما قام به فعلاً. "من هذا الرجل ومن الذي أنهى حياته؟" جلست استرجع من ذاكرتي الحديث القصير الذي دار بيني وبينه. تذكرت محاولته أن يقول لي بأنه مطارد. يبدو أنه لم يكن يهذي. كان في كامل قواه العقليّة. رحل، وبقيت قصته لغزاً لكل نزلاء الفندق.

.6.

جيراننا الذين يعيشون في الغرف المجاورة لغرفتنا، كانوا مختلفين في كل شيء، ويتشابهون في العمق. كانوا من المؤمنين بالله ورسله. كانوا من هؤلاء الملتزمين إيمانياً. حسين، معتنق لفكر موسى الصدر. يُمارس الصلاة، ويحلف بالإمام علي. يصوم في رمضان. لا يشرب الكحول، ويُواعد الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب. أما جورج، فهو يرتدي المسبحة المسيحيّة المذيّلة بالصليب. قريب للفكر السياسي لليمين المسيحي اللبناني. يصوم ويحضر القداس في أيام الآحاد، كما أنه يؤمن بمعجزات يسوع رغم أنّه يدرس الطب في إحدى الجامعات الخاصة. أقول كانوا ليس لأنهما لم يعودا جيراناً لنا، بل لأنّ الكثير من الأشياء تغيّرت مع انتقالنا للعيش في تلك الغرفة التي حتى اليوم لا أعرف ما إذا كنت مرتاحاً فيها أم لا. في تلك الأثناء، كنّا، أنا وأصدقائي، نعتنق الفكر الإلحادي. كان إلحادنا متطرفاً ومزعجاً، وكان بإمكاننا أن نحوّل أي مسألة لموضوع حول الإيمان والإلحاد. بعد فترة، أصبح حسين وجورج يأتيان في الليل ليسهرا معنا على شرفتنا الواسعة. في أول الليل، كنا نملأ الثلاجة بزجاجات البيرة تحضيراً لسهرتنا التي تمتد إلى الساعات الأولى من الصباح. شهدت تلك الشرفة نقاشات كثيرة وصاخبة عن كل شيء. بعد سنة ونصف من تلك الليالي التي بدت كأنها لن تنتهي، تغيّر حسين كثيراً. أصبح يشرب البيرة معنا. ولاحقاً توقّف عن الصلاة والصوم وهو ما لاحظته والدته عليه، ولم يعد يُواعد الفتيات المحجبات. أما جورج الذي كان قوّي الإيمان، أخبرني لاحقاً ودون مقدمات "صرت ملحداً". لم أعرف ما أقول له. أخبرته بأني ما زلت متطرفاً تجاه الأديان الإبراهيمية، ولكنّي أصبحت أقرب للمعتقدات الوثنيّة القديمة. في ذلك الفندق، كل شيء يبدو ثابتاً أو حتى عالقاً في التاريخ. هذا ما كنت أعتقده حتى سنوات مضت. ولكن اليوم، يبدو ذلك العالم بأنّه متغيّر ودائم الدوران. كل من كانوا في الفندق تغيّرت حياتهم للأبد. أحد موظفي الإستقبال مات في الفندق. بائعات الهوى اعتقلن في إحدى مداهمات شرطة الآداب ولاحقاً تم ترحيلهنّ من لبنان. عباس اختفى. جورج أصبح طبيباً. حسين ذهب إلى أفريقيا. أنا وأصدقائي غادرنا البلاد للعمل في مدن الزجاج والرمل، أما صديقنا الآخر فقد أصبح نجماً تلفزيونيّاً تحبه مراهقات بيروت.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard