شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"خدش خدّيه إشهاراً لعاره"... عودةٌ إلى قصة "مُؤنس" الملك الذي ترك ابنه في أفظع سجون المملكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 4 مارس 201904:40 م


قصة "آل بينبين" عبارة عن تراجيديا شيكسبيريّة: أبٌ مهمته الأساسية أن يُضحك الملك ويُسلّيه، ابن يقبع في ظُلمة سجنٍ للأحياء - الأموات في الصحراء لمدة تُقارب عقدين من الزمن، وعائلة بأكملها تعيش حياة تملؤها المأساة.

للوهلة الأولى، يبدو المشهد سوريالياً، إذ كيف يُعقل أن يترك أبٌ - يشغل "منصب" مُؤنس الملك - فلذة كبده في واحدٍ من أفظع سجون المملكة طوال هذه المدة؛ خصوصاً إذا علمنا أن الأب كان يتمتّع بحظوة استثنائية لدى الملك الحسن الثاني، من المُفترض أن تُمكّنه من إخراج ابنه من غياهب المعتقل الرهيب؟

لكن قبل الحُكم على الأب، لا بدّ من الاستماع إليه. هذا بالضبط ما فعله ابنه، ماحي بينبين، الكاتب والرسّام والنحّات ذائع الصيت الذي منح والده الفرصة كي يكشف عمّا يدور في خلده، في رواية "مُؤنس الملك" التي صدرت نسختها العربية مؤخراً عن دار "هاشيت أنطوان نوفل"، بعدما حقّقت نسختها الأصليّة الصادرة باللغة الفرنسية "Le fou du roi" (مجنون الملك/2017) نجاحاً كبيراً من حيث المبيعات في كل من فرنسا (35 ألف نسخة) والمغرب (10 آلاف نسخة).

لماذا اختار أن يكون والده هو الراوي؟

يقول ماحي في حديث مع رصيف22:  "في كلّ كتاباتي، وقفت إلى جانب أخي، الذي أمضى 18 سنة في معتقل الموت (تازمامارت)، بعد مشاركته في انقلاب عسكري ضد الملك في يوليو 1971. خلال هذا اليوم، كان والدي مختبئاً في قبو إلى جانب ملك البلاد، في الوقت الذي كان ابنه؛ مُدجّجاً بسلاحه، يقوم بمذبحة في القصر... قصة كهذه مُثيرة بكلّ المقاييس بالنسبة لأيّ كاتب، وفي هذه الرواية، قرّرت أن أمنح الكلمة لوالدي. أفسحت له المجال كي يدافع عن نفسه؛ ويتحدّث عن جراحه ومأساته...".

وكشف ابن أشهر مؤنسٍ للملك الراحل الحسن الثاني أنه اعتمد خلال كتابة روايته على تسجيلات لوالده، صوّرها أخوه غير الشقيق على مدار 25 سنة، كان يروي خلالها تفاصيل قصته مع الملك. "كانت تلك التسجيلات مليئة بالحكايات والطرائف، سواء الحقيقية أو تلك التي ابتكرها والدي، فأخذتُ منها الأكثر إثارة".

يضيف الكاتب: "ثُمّ إنني لم أُهاجم الحسن الثاني لأن الراوي (والدي) كان مجنوناً بملكه، وكأن الأخير (نصف إله) بالمعنى الميثولوجي للعبارة".

وعن رأيه في العلاقة بين والده الفقيه بينبين والملك الحسن الثاني، أجاب ماحي بالقول: "هناك مثل جميل ورد في الكتاب يقول (من يمتدح جمال مؤخّرته، لن يمكنه الجلوس عليها أبداً). وهكذا رجال الحاشية، جسداً وروحاً، هم ملك لسيّدهم. لقد كان والدي يعيش من دون شك في سجن مُذهّب؛ لكنه رغم ذلك يبقى سجناً… أما الحسن الثاني فقد كان ديكتاتوراً يُمارس سلطة الحياة والموت على رعاياه".

رجل يملك أُذُن الملك!

"وُلدت في عائلة شكسبيريّة بين والد عاش طوال أربعين عاماً في خدمة الملك، وشقيق أُبعد إلى سجن من سجونه". هكذا يُلخّص ماحي بينبين (60 سنة) حياته الاستثنائية التي لا مثيل لها.

ارتبَطت حيوات ماحي ووالدته وإخوته بمسار والده "الفقيه محمد"، الذي كان الشخص الوحيد الذي يُسمح له بالبقاء في غرفة نوم الملك الحسن الثاني.

مهمة الفقيه كانت تكمن في سرد حكايات وقصص مُسليّة غير معروفة للملك حتى يحين نومه. إنها مهمة صعبة لا يُمكن لشخص غير بينبين أن يضطلع بها؛ فالرجل كان يتمتّع بذاكرة خارقة لا مثيل لها، بشهادة كلّ من عايشوه.

اختار الفقيه بينبين بمحض إرادته أن يعيش في مربّع الحكم، وأن يندر حياته كلّها للملك... قصة "مُؤنس" الملك والثمن الذي دفعه مقابل جنونه به
"كيف لم يُفكّر أي منكم ولو للحظة في أنني، وفي موقعي كوالد حاول ابنه اغتيال الملك، لم أكُن أملك أي هامش للمناورة؟"... قبل الحُكم على الأب لا بدّ من الاستماع إليه، ولهذا تحوّل إلى راوٍ لرواية ولده

"نعم، أدين بكلّ شيء إلى ذاكرتي، التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظافري. دراسة القرآن والحديث كانت بالنسبة إليّ أمراً في غاية السهولة، كما أن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكّن من قواعد اللغة كان بالنسبة لي بسهولة شرب ماء... أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملاً. هذه حقيقة الأمر، ولا طاقة لي به. عبثاً حاولتُ إفراغ فكري من الأمور التافهة التي تزدحم فيه". كتب ماحي على لسان والده.

اختارَ الفقيه بينبين بمحض إرادته أن يعيش في مربّع الحكم، وأن يندر حياته كلّها للملك.

بالنسبة لمؤنس الحسن الثاني، فإن دخول القصر الملكي كدخول طائفة جديدة: الانتساب إليها يكون كاملاً ومطلقاً. يقول: "حين يُصبح المرء تابعاً للقصر، يُصبح الرجوع إلى الوراء مستحيلاً. وإلا… الجزاء هو الركوع أو الموت. إنه ميثاق يُوقّعه المرء مع الشيطان".

بين سطور الكتاب، يكتشف القارئ أن بينبين كان مزهواً إلى درجة الجنون بقربه من سيده، فهو كان يملك سلطة أكبر من كل الوزراء ورجالات الدولة؛ بل إنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بذلك عندما يقول بجرعة زائدة من الصراحة: "كان قُربي من صاحب الجلالة يمنحني غروراً لا يُمكنني إخفاؤه، ونوعاً من السلطة كنت أرى قوتها في نظرة خصومي الملتمعة. الواقع أنني كنت أملك السلاح الأكثر إثارة للخوف في نظام الملكيّة المُطلقة: أُذُن الملك".

ويقول: "... من يملك أُذن الملك يساوي الملك قوّة. الله يعلم أيّ جهد بذلته على نفسي لئلا أُسيء استعمال هذه الحظوة".

في إحدى الأيام، كان مزاج الملك الحسن الثاني متقلباً، لكنه قرّر الذهاب إلى ملعب الغولف وطلب حضور الفقيه بينبين لمرافقته. في المقابل، كان عدد من الوزراء ينتظرون قدوم الملك لأنهم في حاجة للتوقيع الملكي على عدد كبير من الملفات المستعجلة.

يستذكر الفقيه بينبين تلك اللحظة: "كان التأخير الذي سبّبه تدهور صحة الملك قد شلّ أعمال المملكة... شعرتُ بذلك الاهتمام المفاجئ الذي أبدوه حيالي. أخذوا يمتدحونني وكأنّ المديح ليس مهنتي، ويعدونني بمعسول الكلام وكأنني لست ضليعاً في فن الكلام…".

إنه جزء بسيط من النفوذ الذي كان يملكه "مُهرّج" الملك.

شرخ في روح "المُهرّج"

عندما تحوّل قصر الصخيرات إلى مجزرة، يوم العاشر من يوليو 1971، كان بينبين مختبئاً برفقة الملك وبعض رجال الحاشية تحت الأرض.

إنه انقلاب عسكري، ومستقبل الملكيّة أصبح على كفّ عفريت، ولم يبدُ أن الفقيه بينبين كان قد فقد شيئاً من حسّه الفكاهي حين توجّه إلى الملك بطلب جعل هذا الأخير ينخرط في ضحك هستيري: "سيّدي، قبل أن يطلقوا عليّ النار، قل لهم ألّا يصوّبوا إلى رأسي المسكين، فلا ذنب له. ليفرغوا رصاصهم في بطني الضخم، فهو وحده المسؤول عمّا يجري لي! هذه المعدة التي لا تشبع أبداً تستحقّ أن تُمزّق إرباً. وهي التي قادتني إلى هذا القبو حيث أختبئ كجرذ".

"كيف أصف عودتي كلّ يوم إلى المنزل حيث تنتظرني امرأة في حالة حداد دائم، وأم حُرمت حبّها الأول، أي بكر أبنائها؟"

غداة فشل المحاولة الانقلابية، ستكون صدمة بينبين كبيرة: ابنه البكر، الضابط عزيز، كان ضمن المُهاجمين الذين حاولوا قتل الملك. ابتداءً من هذه اللحظة، سيحدثُ الشرخ في حياة آل بينبين.

لم يتردّد بينبين الأب في التبرّؤ من ابنه، وهو ما كشفته رواية "تلك العتمة الباهرة" التي كتبها الروائي المغربي الطاهر بن جلون على لسان الضابط عزيز بينبين الذي روى التفاصيل: "ما أن بلغ أبي أني كُنت في عداد المُهاجمين، خدش خدّيه إشهاراً لعاره، وارتمى عند قدمي الملك وقبّلهما باكياً، وعندما أنهضته يد الملك، أنكرني بالعبارات التالية: لقد رزقني الله ولداً منذ سبعة وعشرين عاماً. وإنّي أدعو الله أن يأخذه، أن يُميته ويصليه بنار جهنم... إنّي من صميم روحي ووعيي، وبكل إدراكي، أتبرّأ من هذا الابن العاق".

لكن ماحي، منح اليوم لوالده الراحل الفرصة لكي يُعبّر، ولو بشكل متأخر، عن الألم الذي كان يشعر به طوال فترة اعتقال ابنه البكر. لقد كان مُؤنس الملك أكثر من تألّم في صمت. "جعلتني هذه المأساة أبدو في نظر الجميع حفّاراً لقبر ولدي، وأصبحتُ وحشاً، نذلاً وخائناً. وحوكمت وأُدنتُ مُسبقاً".

يقول بينبين الأب في رواية ابنه ماحي: "كيف أصف عودتي كلّ يوم إلى المنزل حيث تنتظرني امرأة في حالة حداد دائم، وأم حُرمت حُبّها الأول، أي بكر أبنائها؟ ذات مساء، كنّا راقدين على سريرنا، فمالت مينا نحوي وقالت في أُذني: (متى تنوي أن تُعيد إلي ابني؟)، بقيتُ عاجزاً عن الكلام... نهَضَت وغادَرَت الغرفة، وكان ذلك آخر يوم تُشاطرني فيه سريري…".

يُضيف مُنفعلاً: "أقسم بالله إنّني لم أعرف قط ما إذا كان هابيل حياً أو ميّتاً، ولا في أيّ سجنٍ كان. إن الاتهامات الباطلة والاحتقار والكراهية التي واجهتُموني كلكم بها قد قضت عليّ...  ولكن كيف لم يُفكّر أي منكم ولو للحظة في أنّني، وفي موقعي كوالدٍ حاول ابنه اغتيال الملك، لم أكن أملك أيّ هامش للمناورة؟"

مجنون الملك

كان بينبين يُحبّ الملك، من دون مبالغة، إلى درجة الجنون، بينما كان هذا الأخير يعتبره صديقاً له ويمنحه مكانة خاصّة تُثير انتباه أفراد الحاشية.

في الفصل الأخير، تحدّث بينبين عن الأيام الأخيرة من حياة سيده وقال: "كنت أحب أن أتنزّه مع الملك حين تنبش الوحوش القابعة في بطنه مخالبها... كنا نسير جنباً إلى جنب كصديقين قديمين، بدون أن نتحادث، أو يقتصر حديثُنا على كلماتٍ قليلة جداً".

وأشار بينبين الإبن لرصيف22 أن لديه الكثير من القصص الخاصة بالبلاط الملكي، "لكنّني لم أود أن أكتُب كتاب نوادر... (مُؤنس الملك) رواية بمعنى الكلمة، وبشخصيات حقيقيّة".

في موقفٍ أخير يُؤكّد مدى صدق حب الفقيه للحسن الثاني، يروي ماحي؛ دائماً على لسان والده، قصة قوية عاشها مع الملك في آخر لقاء جمعه به بعدما تمكّن منه المرض. "لو كان الظرف عادياً، لكذبت... أنا أقبض أجراً لتقديم الفرح وقول الكلام الذي يُحبّ الملك سماعه....كان سيدي يتوقّع مني أن أنظر إِليه كما ينظر المرء إلى صديق يحتضر من دون حاجة إلى الكذب".

مُتكئاً على عصاه، سأل الملك المريض مُؤنسه، بعدما رفع عينيه نحوَ أزهار الجكراندة:

"لن أعود لرؤية الأزهار بعد اليوم، أليس كذلك؟"

أتاه الجواب: "لا، لن تراها بعد اليوم يا مولاي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard